«شيوعي»، «تهمة» جاهزة لكل من يسمع أغنيات الشيخ إمام. وما أحلاها تهمة، حينما يقارنها المرء بـ «تهم» هذا الزمان التي لا تخلو من الطائفية والتعصب. و«الشيوعي» تستدعي تهمة ثانية جاهزة أيضاً: «كافر»، وفي رواية أخرى: «ملحد»، وأحياناً: «زنديق». وكل ذلك لأنك تستمع إلى الشيخ إمام يغني من كلمات أحمد فؤاد نجم. فالثنائي الذي افترق قبل وفاة إمام، بسبب الخلافات، كان «يوصم» بالشيوعية من قبل السلطة، ومن قبل المعارضات الإسلامية، وقد عبّر نجم خير تعبير عن هذه التصنيفات في قصيدته «ده شيعة واحنا سنة»، حين قال: «وناس تقول شيوعي وعامل نفسه شيعي، عشان خايفين طبيعي ليبقوا ثورتين». وهي عبارة تصح في أيامنا هذه رغم انقضاء سنوات طويلة على كتابتها من قبل نجم الذي أسلم روحه يوم أمس. في مجتمع طائفي، لطالما بدا الثنائي نجم وإمام نافراً، مستفزاً، ومدعاة نبذ من قبل الغالبية الساحقة التي لا تريد لأي تنوع أن يقلق راحتها.
هكذا، قلّما تسمع في جيل الشباب من يستمع إلى الشيخ إمام، وبعض «التكفيريين» منهم يقول فيه ما لا يقال في الخمرة، ويدعون إلى اجتنابه. فيما تجتاح التفاهة، مدعّمة بجيوش من السطحيين، عالم الغناء، ولا تستفز جيلاً من الشباب المنقسم بين تيارين جارفين: الأول يمجّد التفاهة، والثاني يمجّد السلطة الدينية التي لا تقف بالمناسبة في وجه التفاهة، بل تذهب إلى حلف من تحت الطاولة معها. ويجتمع التياران بزخمهما لانتزاع كل ما يعارضهما من طريقهما. لكن في المرحلة «الذهبية» التي بزغ فيها نجم وإمام، استطاع اليسار أن يحتضنهما فنياً، وأن يسوّق لهما كما ينبغي، ولذلك الصقت بهما «تهمة» الشيوعية، نظراً إلى تبني الأحزاب الشيوعية لهما. لكن بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، وتقهقر اليسار العالمي، ومعه «اليسارات» المحلية، بدأ تقهقر نجم والشيخ إمام، حتى وفاة الأخير عام 1995. مات اليسار، ثم مات الشيخ إمام، وأطال الله بعمر نجم، حتى شهد مفاصل تاريخية، منها تحرير الجنوب اللبناني، ومنها سقوط أنظمة عربية قمعية، فضلاً عن مئات آلاف الفيديو كليبات الهابطة والفتاوى المضحكة على الشاشات العربية، وتسنى له أن يصنع نجومية ما، عبر تقديمه برنامجاً تلفزيونياً على قناة «دريم»، ومن ثم مشاركته كضيف في العديد من البرامج التلفزيونية. ومع ذلك لم يعطه ذلك قدرة على إحياء الشيخ إمام، لا بل شكّلت بعض اطلالات نجم ومواقفه السياسية صفعة للشيخ في قبره. بقيت شعبية إمام ونجم محصورة باولئك الذين تلحق بهم «لعنة الشيوعية»، فمتى رضيت السلطة الدينية عنهما، شاع ذكرهما، ومتى حلّت اللعنة الدينية أو السلطوية عليهما، أعيدا بالقوة إلى زنازين النسيان. كان نجم يحاول دائماً أن يخرج من الزنزانة، عبر مهادنة هاتين السلطتين، لكنه كان يعود إلى رشده في كل مرة، ويخرج عليهما ويهاجمهما، فيعود إلى النبذ من جديد. بموت نجم، يتضاعف خطر شطب الذاكرة المتعلقة به وبالشيخ إمام. اليوتيوب يخفف قليلاً من سطوة النسيان. أغنيات الشيخ تتداول اليوم على الفايسبوك وتويتر كتحية له ولنجم، في مناسبة رحيل الأخير. لكن الخشية أن تسيطر «المناسباتية» على أغنيات هذا الثنائي، فتحيا في المناسبات، ثم تعود إلى عتمة قبرها في الأيام العادية. حينها لا تنفع الذكرى، ولا ينفع الندم. ولا يعود ينفع سوى التقرب إلى الله، لنردد مع الكافرين الزنادقة الملحدين الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم: الله حي، الله حي، وسّع سكّة يمرّ الضي...