لم يرغب الشيخ العلّامة عبد الله العلايلي في الإطراب المفرط، في ما فعله بشأن الإصلاحات العاجلة والتنويرية في المجالات والتجمعات الحضرية. مسَّاح بيروت أولاً، ثم مطيح النماذج القديمة وموقف التخريب بالمنطق والعقل والأخلاق والدين. قارئ على نحو معمق بالبنى المحلية والعربية. بقيت القومية العربية، لا الدولة القومية، الحضن المناسب لتحقق اتحاد الشعوب العربية. لم ينفصل النضال السياسي عنده عن النضال المعرفي. تأثر بالجانبين في مصر، حين قاده أخوه إليها وهو لا يزال في العاشرة. مرض الوالد، وكثرة الأولاد في البيت (خمسة صبيان وصبية) دفعا الأخ الأكبر إلى حمل الولد الصغير إلى القاهرة، حيث درس. صدفة سارت به إلى التربع على سدة كبار المفكرين النقديين. تشكله خارج الفوضى اللبنانية، في العشرينيات من القرن العشرين، دفعه إلى إحراز الكثير على صعيد إبراء المجتمع من الأشكال والممارسات المنحرفة.

12 سنة أولى في القاهرة، حيث غدا محبوب علماء الأزهر، أصحاب الاتجاهات العلمية المتعددة. بدأ بالأزهر، ثم انتهى به هواه إلى الاهتمام والشغل على اللغة و"مسايرة الفكر الكلامي" (التعبير الحرفي من الشيخ العلّامة).
الفكر الكلامي عنده هو اللاهوت. مال إلى اللغة والفكر الكلامي، على تأثيرات حقبة العشرينيات المصرية عليه. تحرر ودعوات لا تهدأ إلى التجديد. أسس ذلك لتيارات جديدة سجلت أسماءً بارزة في تلك المرحلة، أبرزها علي عبد الرازق صاحب "الإسلام وأصول الحكم".
لم تعجب العلايلي حدود الاجتهاد غير الواسعة في الأزهر. الحوار في المؤسسة المعروفة يفترض طرح الأسئلة. ما تعذر الأمر، بيد أنه بقي محكوماً بالكثير من الضوابط. لا عزاء بذلك. كذلك لا عزاء بعدم عيشه طفولته وهو يدور بين كبار الأسماء الفقهية والدينية هناك. كبار قيمة وعلماء كبار.
تعدد الزوجات ليس
من الإسلام في شيء
السيد علي المرصفي المصري مؤلف "رغبة الآمال في شرح الكامل". قسطاك الحمصي، الكاتب السوري الكبير، والشيخ الأدهمي من طرابلس. الأستاذ الدسوقي العربي، أحد أعلم العلماء. الباحث المتضلع في علم أصول الفقه، الأعلم في علم الأصول. وحيد في سماء ذاته، نادر العلاقة بالشؤون الدنيوية، أمام رجال انتصروا على مفاهيم الوراثة، دون أن يرذلوها، لأن لا سلامة في رذلها في مجالاتهم. منعشو تنوير، أضحى الولد الصغير منهم، بعدما أضحى شاباً، ذلك أنه في الـ 24، أصدر كتابه الأول "مقدمة لدرس لغة العرب" في القاهرة عام ١٩٣٨. وقع دويّ الكتاب بطريقة هائلة. اعتبر كتاب ثورة. قال فيه فؤاد إفرام البستاني في مقدمة "المرجع" إنّ "طبقة من العلماء، على رأسهم الشيخ العلامة عبد الله العلايلي، لا تزال على سدانة هيكل التعبير". انبرى له كبار في القاهرة، كالأب إنستاس الكرملي في صحيفة «الأهرام». سيطر الكتاب على ذهن الباحثين اللغويين إثر صدوره ودافع عنه سلامة موسى، رئيس تحرير مجلة "الجديدة". أثّر في العلايلي مفكرون أبرزهم الشيخ يوسف الدجوي والمرصفي. الأخير كثير الحضور والإنجازات في أحاديث العلايلي، الزاهد بالكلام، من المرض، والإحباط من تأثيرات الانقلابات اللبنانية والعربية عليه. قدح الشاي على طاولته الصغيرة. كباية الماء كذلك. علبة حبوب المضادات الحيوية، استبدلت حباتها بسيجارة كانت «لايت» داوم الشيخ على تدخينها. يأخذ نفساً، يربّت رأسَ السيجارة بإصبعيه، ثم يعيدها إلى العلبة المخصوصة بإخفائها لأن الطبيب منعه من التدخين. تزوج "رجل الزلزلة" عام ١٩٤٤ بعد ثماني سنوات على عودته من القاهرة. أسس عائلة صغيرة من صبيين وبنت. لم يذهب أحدهم مذهبه. لم يؤلمه ذلك، لأن الخيار مسؤولية، تعزى لا إلى التربية وحدها، تعزى إلى الرؤية بحسبه.
في بيروت، وحّد طرائق العمل بهدف استعادة البيئة المكانية، وتماسكها وهدوئها وبيئتها التاريخية الموروثة، بعيداً من التعصب والجمود. أصدر سلسلة "إني أتهم" التي واجهتها سلطات الانتداب الفرنسي. لاحقت أعدادها، وحاولت مصادرتها، غير أنّ تجند الشبان للسهر على طباعتها وتوزيعها حال دون ذلك. بعدها، ذهب إلى إجلاء مفهوم القومية، بعدما أطلت بقوة في منتصف أربعينيات القرن العشرين. شارك في كتاب "دستور العرب القومي" وعرّف بالقومية. المدهش أن الدين لم يحضر في مفهومه القومي إلا كصفة ثانوية. هنا، دعا إلى ما سماه الدين الطبعي أو الدين الطبيعي. دين مستمد من روح الأديان كلها. خلاصة الأديان. "ذلك أن الدين، من منطلق رجاله، غيره في منطق الله وكتبه. الأول عامل تفرقة بين الناس والطوائف والجماعات. الثاني غرس مبادئ صالحة، تعد الإنسان إعداداً حسناً، للعيش مع أخيه الإنسان" ( مقابلة خاصة). علاقة القومية باللغة عنده عميقة جداً. اعتبر اللغة العنصر الأقوى والمحور الأساسي في القومية. حتى إنه أطلق على العالم العربي اسم "عالم العربية"، لأن ثمة عروقاً مختلفة لدى أصحاب اللغة الواحدة. اللغة أقوى من العرق عند العلايلي. أثار الكتاب ضجة في لبنان وسوريا وفلسطين. وقع العلايلي على بعض الضجة هذه، حين دعي إلى إلقاء محاضرات في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٤. تداخلت النقاشات حتى أفضت إلى "صدامات عنيفة". خرج الحزب التقدمي الاشتراكي من قلب النقاشات هذه. حدث ذلك عام ١٩٤٩. البرك الراكدة، يأسن ماؤها، يردد الشيخ في واحدة من الجلسات المشتركة بيننا. لن يحركها إلا حزب، بعد نضالات في أحزاب أخرى بأشكال مختلفة، من "جبهة العمل القومي" إلى "حزب النداء" مع كاظم الصلح. ناصر العلامة كل الأحزاب الديمقراطية الأخرى، مع جماعة "أنصار السلم" الأقدمين. أنطوان تابت من الحزب الشيوعي اللبناني، رئيس أنصار السلم. جورج حنا ورئيف خوري و"هلم جرا". الجملة الأخيرة محط كلام عند العلايلي.
بداية «الحزب التقدمي الاشتراكي» أولاً باللقاء العريض بحركة التحرر الوطني. أسسه كمال جنبلاط، برفقة العلايلي وجواد وفيليب بولس وصبحي المحمصاني ومحيي الدين النصولي وألبير أديب وجورج حنا. جميعهم من "حركة التحرر الوطني". واجهت الأخيرة تزوير الانتخابات النيابية أواخر الأربعينيات. "وجد كمال جنبلاط، بوعيه الحاد أن الحركة سائرة إلى حتفها، إذا انتهت الظروف المؤدية إلى ولادتها. لذا دعا إلى اجتماع، شرح فيه ما يفكر فيه. تأليف نواة أخرى. ألف الحزب في بيت جنبلاط، خلف المتحف. هناك أعلن تأليف الحزب في مؤتمر صحافي". إثر ذلك، باشروا بتأسيس الفروع في المناطق اللبنانية، أولها بالمختارة. حقل حياة آخر عند العلايلي، صاحب فنون الحياة المتزهدة. التحولات الصاعدة في المنطقة، قادت الجماعة إلى تأسيس الحزب، مع فؤاد رزق العالم القانوني الكبير، نقيب المحامين السابق. بين جنبلاط والعلايلي، كل ما له بالفعل والشعور والخيال. علاقة متصاعدة، التمست معاني العلو والاستمرار والشفافية والتجدد والإرهاف واللمح والتعاملات الإنسانية والأخلاقية والإبداعية والتصادم.
تعرض "أين الخطأ" مؤلف العلايلي لردود فعل عنيفة، لم يتوقعها العلامة نفسه. ناقش في الكتاب بعض تقاليد الإسلام الرسمي، الحائل دون الانفتاح الإسلامي المسيحي في مختلف شؤون الحياة. كذلك، في "مقدمة لدرس لغة العرب"، حين دعا إلى تغيير المنهاج في الدراسات اللغوية وطريقة قياسها في الوضع والاشتقاق وما يتبع ذلك من أشكال الاستعمال، بهدف إثارة نقاش لبعثرة فكرة المحافظة على التراث الاجتهادي. حاول زحزحة باب موصد لأنه راقب باللغة، سير الحضارات في ما سكت عنه التاريخ من خلال دلالة الكلمات. أراد أن يصل إلى الفهم الصحيح لتطور اللغة. اللغة العربية أرقى اللغات السامية، هكذا يراها. المرأة في حياة العلايلي "مفتاح تحرر المجتمع". تعدد الزوجات ليس من الإسلام في شيء. "جريمة إسلامية كافرة". محبط إذا عدنا إلى إقامته الدائمة في البيت، من تحول الإنسان إلى إنسان مستذئب. "منذ عام ١٩٧٥، أعاني من غشاوة. لا أكاد أقدر على التفكير إلا وتهبط عليّ غاشية من الظلامات والمظالم". لا مشاريع مؤلفات جديدة "لأن عمري في الثمانين". متعة الجلوس إلى الشيخ، متعة بداية. ليس الرجل متحفاً ولا معرضاً. إنه الوشيجة ومقابلها، لا يحجب قيمة عمله بصالح التعبير والشراكة والقيمة المعنوية.
آخر اللقاءات في «مستشفى البربير» حيث بدا كالسؤال الحائر في فضاء العالم. بلغ رتبة غير مبلوغة، ثم مات. موته ألف صور ومرئيات ومشاهد جديدة، بدل أن يلغيها. مئة قليلة على صاحب المئة، الماتع الباتع. يتذكره لبنانيون، في مئوية ولادته. هذا تأكيد للنسيان. نسوه، لا لأنه يُنسى، لأنهم نساؤون.