في عرضه الجديد «الرقص مش إلنا»، يشبكنا عمر راجح في تركيبة كوريغرافية صارخة، تحوم في سياقات متعددة، على مستوى الاقتصاد، والسياسة، والسوسيولوجيا. العرض الراقص، الذي يحط على خشبة «مسرح مونو» في بيروت، يأتي كنتاج فني، يُقدم فيه الجسد كوسيلة للتمرد، على النظم كافة. مؤسس فرقة «مقامات»، و«مهرجان بيروت للرقص المعاصر – بايبود»، يبني ويطرح قضايا ترتبط بالفوقية، والسلطة، والجماعة، والتمرد، والحلم ضمن شكل مسرحي راقص يبسط حيوية داخلية، وشعوراً، وروحاً، وأثراً فنياً. «ربما كان غريباً، على المستويات كافة، أن اختار الرقص، في بلد، لم يشهد سوى الحروب الأهلية، والدمار، والموت، والخسارة... مع ذلك، لم يكن الرقص، في ذلك الوقت، إلا أكثر ثورية، استفزازاً، ومواجهةً». من خلال الجسد، يعبر عمر راجح إلى نواحٍ أكثر حريةً، واتساعاً من واقعنا الراهن. انطلاقاً من ذلك، يتمتع «الرقص مش إلنا» (60.د)، بفرديّة خاصة، تصل إلى العموم. لا ينقل العرض، بيوغرافيا راجح، وإنما تشكل الأفكار، والذكريات، والماضي، اللبناتِ الأساسية لمحاكاة الراهن. قصة صعود راقص طموح في «بيروت سفرة» (2002)، وتأسيسه لفرقة «مقامات»، ومحاولات جعل بيروت على خريطة الرقص العالمي، من خلال «مهرجان بيروت للرقص المعاصر»، مروراً باندثار «سيتيرن بيروت» (2019)، وصولاً إلى عرض «مئذنة» (2018). محطات يُعيد عمر راجح، تشكيلها، بصرياً، وحركياً، ونصياً، وكوريغرافياً، ضمن العرض المرتقب، ليطرح واقعاً قاسياً، أمام الجمهور، قوامه التمرد، والمواجهة، والخوف الذي يولّده الرقص، والمستقبل.

عمر راجح في عرض «الرقص مش إلنا» (اليزابيث بيرل)

انطلاقاً من هذه المضامين، يأتي الشكل الفني لعرض «الرقص مش إلنا»، استكمالاً لدائرة البحث الأساسية، وهي الرقص، أو بالأحرى، الجسد. يتفتّت الجسد في العرض، ويُعيد راجح تأطيره وترتيبه في لغة حسية عالية. ما نراه في الظاهر، وراءه باطن ودلالة. يؤكد عمر راجح أنّ البحث في مجال الحركة، بدأ منذ عام 2011، واستُكمل حتى عام 2019. تبلور البحث في حركة الجسد وتطور مع الوقت. «وصلت إلى فكرة مفادها أنّ العلاقة مع الجسد ترسمها العلاقة مع أجساد أخرى، ليكون النتاج مستنداً إلى مجموعة أجساد مركبة، تتحول وتتفاعل. حتى إنّ الجسد في اللغة المعاصرة، ليس لديه مركز أساسي واحد، على عكس ما يحتّمه الرقص الكلاسيكي أو الفولكلوري. فكل أعضاء الجسد تشكل مركزاً بحدّ ذاتها. كل عضو من أجسادنا هو محرك أساس، يتفاعل، ويبث، وينقل إشارات إلى بعضه البعض. حتى إنّ الجسد، في لغتنا المعاصرة، لم يعد يقتصر تفاعله، على أعضائه فقط، بل بات يتفاعل مع السينوغرافيا، والأفكار، والهواجس. ما يولّد إشارات ذات حساسية عالية، ومعانٍ متداخلة، تصل إلى الحس العام». وبذلك، يكون عمل راجح، تحديداً في «الرقص مش إلنا»، يعمل بشكل مختلف عن النسق الكلاسيكية، التي استمدت من الآلة والصناعة، في بداية القرن المنصرم. تبرز في العرض شرائط مصوّرة، من الأرشيف، بالإضافة إلى موسيقى ولّفها راجح مع الألماني جوس تورتبول وشربل الهبر. موسيقى تختلط مع موسيقى أسمهان، ونصري شمس الدين.
يطرح واقعاً قاسياً قوامه التمرد، والمواجهة، والخوف الذي يولّده الرقص والمستقبل


كما هي العادة، تحضر مدينة بيروت، في عروض عمر راجح. يقول في هذا الإطار: «صار المشهد الثقافي، شبه خالٍ، مع تسارع الأزمة التي نعيشها في هذا البلد، ما يجعلنا حذرين، وخائفين من فراغ تام، في المستقبل». الثقافة، التي يبثها هذا العرض، لا تقترب من التسلية والترفيه السائدين حالياً، بل ترمي إلى إثارة الوعي العام. وبخواء المشهد الثقافي، «نخاف أن نخسر وعينا». لذلك تأتي محطة بيروت، أساسيةً في تشكيل الوعي الجماهيري. وعليه، يشكل «الرقص مش إلنا»، وسيلة لنستشعر الأسئلة الداهمة، ضمن مضمون شائك، وتركيبة فنية متماسكة. يمكن القول إن الجمهور بحاجة إلى ذلك. الجمهور ليس بحاجة لا إلى التنفيس، ولا إلى الترفيه، ولا إلى التسلية. الفنانون الصاعدون يتوقون لرؤية نتاجات مماثلة، والجمهور بحاجة لإعادة التفكير في قضايا تشبك السياسة، بالاجتماع، بالدين، بالاقتصاد، ما يعيد التفكير في مصيرنا كجماعة، نحلم بالثورة، والتمرد، والتغيير.
من المقرر أن يجوب «الرقص مش إلنا» الذي صُمم بمساعدة الراقصة ومديرة «بايبود» ميا حبيس، على دول كثيرة، في المستقبل القريب، أبرزها، زغرب في كرواتيا، وروما، وميونيخ، وفرنسا، وإسبانيا، ليقدم العام المقبل في أستراليا وكندا.

* «الرقص مش إلنا»: اليوم وغداً وبعده ــــ «مسرح مونو» (الأشرفية، بيروت) ـــــ تُقفل الأبواب عند الساعة 8:30 مساءً. البطاقات متوافرة في مكتبة «أنطوان»، و«أنطوان أونلاين»، وعلى باب المسرح ــــ للاستعلام: 70/626200



«بايبود»: نلتقي بعد حين...
كان لافتاً غياب «مهرجان بيروت للرقص المعاصر- بايبود» هذا العام، بعدما قدم دورته الـ 18. «احتفالية الرقص السنوية» التي كان ينظمها كلٌّ من ميا حبيس وعمر راجح، غابت عن بيروت هذا العام. يرى راجح، أنه بحاجة إلى وقت، لإعادة التفكير في تنظيم المهرجان وإعادة تصوّره. يتوقف المنظمون، هذا العام، لعلّ المستقبل يكون أكثر إشعاعاً، في العام المقبل. المهرجان الذي وضع بيروت على الخريطة العالمية للرقص المعاصر، يواجه تحديات كبيرة، لكنها لن تثني المنظمين عن إقامته لاحقاً. يقول عمر راجح: «لن نتنازل عن تنظيم المهرجان، لكننا نترقّب استقرار الأوضاع العامة، حتى نعلم كيف سندير المهرجان». لطالما انتظر الجمهور، العروض العالمية، خصوصاً أنّها شكّلت وعياً جديداً على مستوى الفن، ورفعت الذائقة الفنية العامة. فمهرجان «بايبود» كان بمثابة تذكرة عبور لكل المهتمين والمهتمات بالرقص، والثقافة، والفنون، لاستكشاف العالم، بأجمعه، من خلال لغة موحدة عنوانها: الجسد.