حفلت مدينة درنة (شرق ليبيا)، الشهر الماضي، بمهرجان «الأسطى عمر» للفكر والفنون، في دورته الثالثة، بعد توقف دام ثلاثة عشر عاماً. وكانت أول (وآخر) دورتين من المهرجان نظمتا في عاميْ 2009 و2010، وأثارتا جدلاً ثقافيّاً واسعاً في أواخر حقبة القذافي، وسبقهما احتفالية في سنة 2001، في مناسبة مرور خمسين عاماً على رحيل الشاعر إبراهيم الأسطى عمر (1902-1950)؛ الشخصية التي يتخذ المهرجان منه اسمه، باعتباره شخصية محلية أسهمت في معركة الاستقلال الوطني بترؤسه «جمعية عمر المختار – درنة» خلال حقبة الإدارة البريطانية في أربعينات القرن الماضي.«جاء المهرجان تتمة لدورتين سابقتين بعدما استقرت الأوضاع الأمنية أخيراً في المدينة (درنة) وإيذاناً بعودته خلال السنوات القادمة» يقول الشاعر مصطفى الطرابلسي، بصفته عضو اللجنة التحضيرية للمهرجان. ويضيف الطرابلسي: «لعب حضور العديد من الشخصيات على مستوى ليبيا الدور الكبير في إنجاح المهرجان وإثرائه في هذه الدورة». إذ زخر المهرجان بمشاركة نخبة من الأدباء الليبيين، على رأسهم الروائي منصور بوشناف والشاعر عاشور الطويبي والناقد سالم العوكلي والفنان التشكيلي عمر جهان والكاتبة المسرحية سعاد خليل وأستاذ العلوم السياسية في «جامعة بنغازي» فتحي البعجة.
تعرضت الدورة الأولى من المهرجان لهجوم مُسبق من قبل الصحافة الرسمية، وكان افتتاح فعالياتها بعرض مسرحي يتناول علاقة السلطة بالثقافة والفنون، من تأليف الكاتب المسرحي علي الفلاح، سبباً إضافياً في المزيد من سخط النظام السابق على المهرجان. «استفزت مسرحية «بندير موالف زفة» السلطة القائمة آنذاك وأعطت للمهرجان انطلاقة جريئة لفعالياته» يقول مؤلِّف المسرحية. ويضيف الفلاح في حديثه إلى «الأخبار»: «أعاد المهرجان في دورته الأولى، الروح للزخم الثقافي وأحدث تطوراً نوعيّاً لما فيه من تنوّع ومناخ تعدّدي يحاول تنفس الحرية، واليوم، في دروته الثالثة، كان بمثابة فضاء لوصل ما تقطع من أوتار الثقافة الليبية ولم شمل المثقفين الليبيين».
المهرجان الذي تواصل تنظيمه جمعية «بيت درنة الثقافي»، توزعت أنشطته بين يوم افتتاحي تضمن معرضاً للكتاب وآخر تشكيلي، ويوميْن تاليين تناول أولهما التجارب الفكرية للمشاركين، الأكاديمية والنقدية والتراثية والصوفية؛ وكُرِّس اليوم الأخير منه للتجارب الفنية، الروائية والمسرحية والتشكيلية والشعرية، إلى جانب محاضرتيْ الفيلسوف نجيب الحصادي والمترجم السنوسي استيته، «حياة المؤلف بين غبش اللغة وجنس النص» و«الفن والفلسفة القورينائية والأبيقورية» على التوالي.
شارك الأكاديمي والمترجم زاهي بشير المغيربي، بصفته «الشخصية الشرفية» للمهرجان، تجربته الأكاديمية (في العلوم السياسية)، التي بدأت شغوفة تحت تأثير والده الذي كان قيادياً في «جمعية عمر المختار – بنغازي» المُنحلة عشية الاستقلال؛ وتطوّرت في أعقاب أحداث يناير 1964 الدامية، عندما كان أحد طلاب مدرسة بنغازي الثانوية للبنين. درس العلوم السياسية في جامعة القاهرة، واستكمل الدراسات العليا في الولايات المتحدة. لم يخفِ المغيربي في مداخلته جنوحه إلى الترجمة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إذ ترجم أخيراً مذكرات المبعوث الأممي السابق أدريان بيلت، وكتاب المؤرخ الليبي علي عبد اللطيف أحميدة «الإبادة الجماعية في ليبيا»، بالإضافة إلى أعمال أخرى قيد النشر، بعدما ترسّخت لديه من «قناعة بأهمية الترجمة وضرورتها لتطوير العلوم بشكلٍ عام ولا سيما العلوم الاجتماعيَّة» وفق تعبيره.
بيد أنَّ حديث المغيربي تجاوز الحرم الأكاديمي ليشتبك أكثر مع الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، في أعقاب مداخلات الحاضرين، حين عبَّر عن رأيه صراحةً في الحوارات السياسية التي جرت في عواصم عربية وغربية طيلة السنوات الماضية: «ليس هذا ما اسميه حواراً. الحوار الذي أتصوَّره هو الحوار الذي تُمثَّل فيه جميع فئات المجتمع وتحاول أن تتفق على مجموعة من الثوابت، أيْ الاتفاق على ثوابت عامة وكيفية إدارة الخلاف في ما بينها».
من جانبها، ترى أستاذة النقد الأدبي في جامعة طرابلس فاطمة الحاجي، التي شاركت تجربتها الروائية مع الحضور أن «الإنسان في أمسِ الحاجة إلى الأدب والفن في عصر وجود التكنولوجيا في كل مناحي الحياة العصرية والتشيؤ المادي والتهديد الوجودي لنا بصفتنا أمة عربية إسلامية». وقالت صاحبة رواية «رحيل آريس» في حديثها إلى «الأخبار»: «حقَّق المهرجان نجاحاً باهراً في مدينة درنة التي كانت دوماً منارة الفكر والعلم وإن حاول بعض الأشرار طمس هويتها، وتنتظر ليبيا المزيد من المهرجانات الثقافية الداعمة لنهضة البلاد التي وقعت في غياهب نسيان المحافل الفكرية وتأثيرها في تشكيل الهوية الوطنية ونشر الوعي الجمعي الهادف إلى بناء الإنسان الراقي».
كما شهد المهرجان افساح المجال للشباب، على غرار الناقد السينمائي محمد بن عمران والكاتب مفتاح العلواني والباحث المكي أحمد المستجير. «لم يخطر في بالي أن أشارك في المهرجان الذي كنت أتتبع أخباره صبياً وأتلمَّس آثاره فتياً»، يقول في حديثه إلى «الأخبار». ويضيف المستجير، الذي شارك تجربته الصوفية في المهرجان: «شكَّل المهرجان نافذة ذهبية، لي، ولمن شارك فيه من جيلي حضوراً ونقاشاً، من الحوار بين الأجيال الذي استمعنا فيه خلاصة تجارب ناضجة عمرها عقود في مجالاتٍ مختلفة، ومشاركات الأجيال الأصغر سناً».
إلى ذلك، تخلَّل المهرجان عرض أفلام قصيرة، وجلسات نقاشية، وأمسية شعرية، واختتم بحفلة موسيقية أحيتها فرقة «الزمن الجميل». كما تضمنت استراحة مدائح نبوية أدتها فرقة «البردة» الصوفية، دأباً على عادة الزاوية العيساوية بالمدينة، في المشاركة في أحداث المهرجان منذ انطلاقته الأولى. «حاولنا أن نحيط بكل جوانب الفكر والفن في هذا المهرجان، من الفلسفة والفكر إلى التصوف والتراث، مروراً بالفنون كافة» يعلّق الطرابلسي.