فتى هوليوود المشاغب، ضمير أميركا المُذنب، شيطان «الأندرغراوند»، وفرعون عوالم هوليوود الموازية... كينيث أنغر (1927-2023) الذي رحل قبل أيام، استحقّ كل هذه الألقاب. رفض الدخول في نظام صناعة النجوم، وقرر البقاء في الجانب المظلم من الأعمال الاستعراضية، ذلك الجانب الذي يسمح له برؤية أعظم ما يُخفى: هشاشة البشر. أعلن عن مثليته الجنسية علانيةً في وقت كان ذلك لا يزال غير قانوني في الولايات المتحدة الأميركية. قاد بغضب حملةً لصالح التحرر الجنسي، مثبتاً في أفلامه التجريبية القصيرة غموض الجنس وثقافة أميركا الشمالية في ما يتعلق بعبادة الرموز الذكورية، مثل جيمس دين و«ملائكة الجحيم».

منذ بدايته، لم يتوقف أنغر عن طرح الهواجس التي تسكن حالته وحياته وتخيلاته وتمرّده. في «ألعاب نارية» (1947)، قدّم الصحوة الجنسية لمراهق شاب على يد أحد بحارة البحرية الأميركية. توِّج العمل الايروتيكي بانفجار الألعاب النارية والحرق الرمزي لشجرة الميلاد. الفيلم القصير (15 د.) بالأسود والأبيض ساءل الأيقونات الأميركية على رأسها مفهوم الوطن (الألعاب النارية في عيد الاستقلال)، ورجولة البحّارة من خلال فعل يتوّج بالقذف، وإحراق القيم العائلية التقليدية. يعتبر «ألعاب نارية» أول فيلم روائي للمثليين في الولايات المتحدة، ما عرّض أنغر للملاحقة القانونية بتهمة «الفحش». لم يتوقف عن تقديم أعمال متمردة بطبيعتها شككت دوماً في الصور الشعبية التي سادت حقبة الخمسينيات ونمط الحياة الأميركي.
تعد الثقافة المضادة، وتحطيم الأيقونات، والفتشية، والتنجيم، والمثلية، والدين وحتى النازية من بين الموضوعات الذي تناولها أنغر في فيلمه Scorpio Rising (1964). بعد عروض عدة، صادرت الشرطة الفيلم القصير بدعوى «الفحش». Scorpio Rising معقّد للغاية، ذكر أنغر أنه أنجزه بدون معرفة بعقيدة أليستر كراولي. وبالنسبة إلى من لا يعرف دين الثيليما، يعتبر الفيلم غامضاً وغير مفهوم البتّة. إنّه أحد أهم الأفلام التجريبية الطليعية والأندرغراوند (Underground Movies)، ترك بصماته على سينما ديفيد لينش ومارتن سكورسيزي. بعد Rabbit’s Moon وEau d’Artifice الذي يعتبر انفجاراً من اللذة والحرية على موسيقى فيفالدي، وInauguration of the Pleasure Dome، جاء Lucifer Rising (1972) رحلة ولادة صوفية جديدة، أسطورية ودينية. يبدأ الفيلم كالحلم ثم التهديد وتقطير الفكر الصوفي في سلسلة من التخيلات. دراما نفسية غريبة مدعومة بمشاهد كرنفالية لرجل شرير. Lucifer Rising شكل من أشكال الطقوس بمناسبة موت الأديان القديمة مثل اليهودية والمسيحية والصعود العدمي للوسيفر أو إبليس. الفيلم عبارة عن نموذج جديد للمخرج، حيث يتم التعبير عن الرمزية ودور اللاوعي في الحياة بينما تتداخل صور مصر القديمة والحياة الماضية مع إشارات ثقافة الحاضر.
في كتابه «هوليوود بابل»، سرد أنغر الحياة الجنسية وحالات الانتحار في هوليوود الأربعينيات. يروي الكتاب الجانب الآخر من صناعة السينما: الرومانسية والانفصال والإدمان والقتل. اعتبره كثيرون ثرثرة سطحية غير ضرورية ومعظمهم رفع دعاوى تشهير ضد المؤلّف. نشر الكتاب في الأصل في باريس عام 1959، وظهرت الطبعة الأميركية عام 1965 وحُظر الكتاب بعد عشرة أيام فقط، وتم نشر النسخة الثانية بعد عشر سنوات. «هوليوود بابل» هو صفحة هوليوود السرية. نميمة استفزت عواطف البورجوازية الصغيرة، والنخب الاجتماعية وممثلي الأغلبية الأخلاقية. الكتاب مفهوم فني طليعي يدمّر ويمجّد هوليوود في آن.
كل ما فعله أنغر في أفلامه ترك بصمته على الأفلام السائدة ومقاطع الفيديو الموسيقية. زاوج البوب والسينما، كما ساهم ميك جاغر وجيمي بيدج وليد زيبلين بالموسيقى في أفلامه. أحدث أنغر ثورةً في الرؤى حول كيفية استخدام الموسيقى في الأفلام بشكل لا مثيل له، خصوصاً أنّ شخصياته ــ حتى فيلمه الأخير «ميسوني» (2010 – دقيقتين)ـــ لا تزال صامتة. أنغر الذي توفي الأسبوع الفائت، كان يتظاهر دوماً بالسعادة وقميصه مفتوح، تظهر على صدره حروف كلمة «لوسيفر». كان روحانياً بقدر ما كان براغماتياً. في قراءاته، لوسيفر هو الصالح الحقيقي الذي يجلب الضوء والألوان.