تحت عنوان Breaking Point، احتضنت «غاليري جانين ربيز» في بيروت معرضاً استعاديّاً للتشكيليّ اللبنانيّ هنيبعل سروجي (1957)، حوى أعمالاً تعود إلى التسعينيّات من القرن الماضي، وتحديداً إلى معرضه الأول في بيروت عام 1997. اشتهر سروجي باعتماد أسلوب خاص يقوم على الرسم فوق قماش غير معالج يعتبره الفنان «امتداداً لبشرته» (النار، الصدأ، الحمض، الطلاء الأكريليكيّ والماء)، مع استخدام موقدة اللحام التي تتيح له إحداث ثقوب صغيرة في أعماله تستدعي جدران المباني في بيروت التي تحمل آثار الرصاص والمعارك. كتل من الألوان والضوء في لوحات زيتية على الكتّان ذات مقاس كبير (180 × 150) من وحي مرحلة ما بعد الحرب الأهلية (1992)، أي قبل ثلاثة عقود. تجسّد هذه الأعمال حالة الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ومن أحوال ما قبل إلى ما بعد. المفردات التي استخدمها سروجي لعناوين لوحاته ذات منابع «نباتيّة»، إذ تكرّر العنصر النباتي، فضلاً عن الموسيقى، كمن يبحث عن روابط كونيّة متعددة العناصر، خصوصاً ما يرتبط بالطبيعة المتجلية في علاقة الإنسان بالشجرة الممتدة جذوراً في الأرض فيما تاجها في السماء. إنها الأرض والسماء في حالة اتحاد. سروجي منجذب بوضوح إلى عناصر التكوين (الهواء، الأرض، الماء والنار) ليعيد تشكيل الحالة البدائية. واللون الأخضر لديه للنبات، والأزرق والأبيض للهواء، والبني للأرض… وفي سلسلة لوحات تحت عنوان «الأرض والبحر»، نلحظ طبقات عديدة من الطلاء. يقدم سروجي نظرته الخاصة اللامتناهية إلى الأرض والبحر والسماء، مضمّناً اللوحة بعداً تناغميّاً «موسيقيّاً» كمن يسمع أنغاماً موسيقية وهو يعمل على الألوان. إنّها إذا جاز التعبير «مَوسَقة اللون». الخطوط العمودية السميكة تتبعها نغمات إيقاعية.محتويات المعرض أُنجزت في فترة يمكن وصفها بـ«الهادئة نسبيّاً». شغلت الذكريات مساحة واسعة لناحية المواضيع التي أحالتنا إلى زمن قريب مضى لكنّ أثره ممتدّ. تجسّدت هذه الذكريات في ظلال أناس نالت الحرب منهم وبدّدت راهنهم. على صعيد اللون، تنفتح تجربة سروجي خلال هذا العقد على ضبابيّة مقصودة تجانب الإفصاح التام، بين ألوان داكنة وأخرى مضيئة. أعمال تفصح عن شيء من اليأس، وتلك حالة غير مقتصرة على التشكيليّين آنذاك بل طاولت باقي الفنون، فالسؤال ملحٌّ على الجميع: هل انتهت الحرب حقاً؟ وإذا انتهت، لماذا لم يتغيّر شيء على نحو ملموس؟ يلجأ سروجي إلى التجريد تعبيراً عن هذا القلق.
الخطوط والمشحات اللونية كوّنت في لوحات سروجي ظلالاً باهتة للطبيعة والبحر والريف. هو تعمّد عدم وضوحها وتركها غير مكتملة. اكتفى بالضوء والظلّ بأقلّ كثافة ممكنة، وبأدنى تضادّ (كونتراست) ممكن. ثمّة مذاق تجريديّ لديه في اللعبة اللونية الخافتة والمكتومة. يذوب التجريد في المشهد العام لإخفاء الأسرار والجروح والندوب. التبقيعات واللطخات هي أثر زمن الحرب الأهلية. لوحات زيت وأكريليك على قماش خام، مع كميات متفاوتة من الماء للوصول إلى شفافية اللون في بعض اللوحات. برزت أيضاً الثقوب المحترقة في لوحات سروجي لتبلغ أحياناً الطبقة الثانية من القماش وفي بعض الأحيان تُظهِر دعامة خشبية، أو جداراً. يوضح هنيبعل سروجي: «بالنسبة إليّ، حرق القماش هو نوع من الرسم. يمكنني استخدام الفحم المحترق. الأمر يتعلق باستهلاك الدعامة نفسها. إنها فكرة الحرب التي تحوّلت إلى فكرة زخرفية موسيقية».
يقف سروجي وحيداً على أطلال الذاكرة. الطبيعة تمتدّ لديه بأناقة نحو مساحات فارغة حيث الأشجار قليلة الفروع، نحيلة الجذوع، وسط أكوام صغيرة متناثرة لأوراق الشجر. اللوحة بالنسبة إلى سروجي، حلم فيه صفاء وسكينة، لكن ثمة ما يعكر هذا الحلم (الحياة) وهنا، هي الحرب، ذاك المعكّر للصفاء والسكينة.