تختزل خولة الطفيلي في لوحاتها الصغيرة والمتوسطة نبض الشارع، في بيروت وسواها، بين المدينة والقرية، وتمنحها عنوان «مربّع الحياة» لتعلّقها في النهاية على جدران مقرّ «جمعية الفنانين التشكيليين» في فردان، لكنّه أقيم (يا للغرابة!) لثلاثة أيام فقط بين السادس عشر والتاسع عشر من الجاري! ‏عدد لوحات الطفيلي كبير جداً يصل إلى مئة وستّ تراوح مقاساتها بين عشرة سنتمترات مربعة و 50×70 بمواد متنوّعة من زيت على خشب أو زيت على قماش أو أكريليك على قماش. مشاهد من الحياة الواقعية اللبنانية تتّسم ببهجة ألوانها وتعدّد المواضيع. تقطف المشهد والحدث وتعيد صوغهما بحبّ وحنان على طريقة مانيه الانطباعية لدى رسم حديقته. عين خولة تلتقط الجمال وتبعث فيه أحاسيسها الجيّاشة. صورة المجتمع تدلّ في لوحاتها على جدّية الكفاح للحياة، للعيش اليوميّ، اللذين باتا أمراً شاقّاً في لبنان في ظلّ حالة التقهقر المعيشيّ الذي دفع المواطن اللبناني إلى ابتكار سبل تحصيل العيش والإنتاج، حفاظاً على كرامته الإنسانيّة.
«فرحة القلوب الصغيرة بالسيارة الحمراء» (أكريليك على قماش ــــ 50 × 50 سنتم ــــ 2022)

تستلهم الطفيلي أيضاً تعبيريّة فان غوغ، فتكثّف الطبقات اللونيّة لنقل حياة الشارع من جهة، والطبيعة من جهة أخرى. لكن هذا الاستلهام لفان غوغ يقع في ثرثرة لونية فائضة تحرفه عن منبع الاستلهام. لوحتها غنيّة بالتفاصيل وتلفت فيها المشحات اللونية المفعمة بالضوء. إنّها شاعريّة الحنين إلى الماضي والحرف القديمة والأشياء التي هي في طور الانقراض، وصولاً إلى التراث المعماريّ المهدّد. كأنّها تتوق إلى صون البهجة في الزمن القاتم، ولا فرق بين النظرتين إلى المدينة أو القرية. الواقع متساوٍ في الأزمة، والأمكنة متّصلة بهمّ واحد لا يخدمه في هذه الحالة التجريد أو التجريب، بل تلائمه الاتجاهات الانطباعية والتعبيرية. واقعية تتأرجح بين الرسم والفوتوغرافيا، ولا أسلبة أو تفاصح أو تغريب، بل ما يُدني المكان والمنظر والحدث من الروح، بعطف وحبّ وحنان وحميميّة، رغم الواقع الأليم والقلق واليأس المعمّم. هي فسحة لون وضوء وسط الظلمة الحالكة. تدخل ريشة خولة الدافئة إلى داخل البيوت، كأنّها تولّد أملاً وتقول: أنا منكم، أنتمي إلى هذا المكان الذي أحبّه وأحنّ إليه، وأودّ الإبقاء على بصيص من نور وأمل. لا ميلودرامية أو بكائيّة أو سوداويّة في لوحات الطفيلي، بل نزاع تشكيليّ مع كلّ ذلك، أي مع الواقع الذي لن يستمرّ إلى الأبد.
تنقل نبض الشارع بين المدينة والقرية، وتمنحه عنوان «مربّع الحياة»


نرى، مثلاً، في لوحة عائلة قرويّة متحلّقة حول «الصوبيا»، وأطفال يلعبون في لوحة أخرى، أو خيّاطة غارقة بين خيطانها، أو مكواة وأباريق وأغراض تراثية أضحت للزينة واستدعاء الذاكرة، أو آلات موسيقية، ومَرسماً وتلاميذ… حتى إنّها تنجز رسماً ذاتياً لها وسط هذا الكمّ من الحنين. لا تغفل عن حضور الصليب الأحمر والدفاع المدني الكثيري العبور والحضور في الشارع. لكنّ الأبهى والأكثر إبهاجاً للنفس الزهور والورود والفراشات والحيوانات الأليفة.
نزهة مبهجة، إنسانيّة، حنونة، عطوفة، مفعمة بالحنين والذكريات وبعض الأسى على مفردات من التراث قد تكون مهدّدة بالزوال. مع ذلك، لا يغيب الحب والأمل في عودة محتملة إلى «مربّع الحياة» مثلما كان وربّما مثلما سيكون.