كأن لا يكفي البلد كلّ ما يعصف به من أزمات، أتت سرقة بعض من أرشيف «الوكالة الوطنية للإعلام» لتتوّج زمن الانهيار وانعدام المسؤولية على كلّ المستويات. أواخر شهر شباط (فبراير) الماضي، مرّ خبر عابر عن سرقة خادم في مبنى الوكالة، ما لبث أن أكّده وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد مكاري، قبل أن يُنسى حتى أسرع ممّا تُنسى أخبار المشاهير. هكذا، تعاطت الوسائل الإعلامية مع الخبر الذي يُفترض أن يعنيها قبل غيرها، باستخفاف ولامبالاة، هذا إن تناولته أساساً. ففي بلد يُسمع فيه يومياً عن أخبار انتحار وانهيار مبانٍ وسوء تغذية وقطع أشجار معمّرة وسرقات وإغلاق مدارس وغيرها من جرائم بحقّ الإنسانية من دون أن يرفّ جفن، لم يعُد مستغرباً أن تُسرق ذاكرته من دون أن يعلوَ صوتٌ ولو همساً، ولو حصلت السرقة في محيط وزارة داخليته المفترض أنّها الوصية على أمنه الداخلي!
جيم هاوزر ـ «فقدان ذاكرة» (أكريليك على خشب ـ 2017)

ثلاثة ملايين صورة لمناسبات تعود إلى تأسيس الوكالة عام 1961، تحمل جزءاً من الذاكرة الجماعية اللبنانية، اختفت ثلاثمئة ألف منها محمّلة على خادم بلمح البصر، بالإضافة إلى 20 بطّارية وجهاز الـ«UPS». صحيح أنّ نسخاً من المسروقات لا تزال محفوظة لدى الوكالة، ما يعني عملياً عدم خسارة محتوى الأرشيف إلى الأبد كما سبق أن حصل أيّام الاقتتال الداخلي. إلّا أنّ الجريمة الأخيرة تطرح علامات استفهام عدّة، أُولاها تتعلّق بضمان عدم تكرار حصول جريمة مماثلة، وخصوصاً أنّ معالمها تُظهر تعدّد السارقين ومعرفتهم المسبقة بغرف المبنى الداخلية وفوق ذلك أخذ وقتهم والتمعّن في العملية من دون كشف أمرهم إلّا بعد رحيلهم وسطوع شمس الصباح. ثاني الأسئلة يتعلّق بعدم وجود كاميرات مراقبة في منطقة ممتلئة بالأبنية الحكومية، ولا سيّما وزارات الداخلية والإعلام والسياحة، عدا الوكالة نفسها، رغم أنّ المنطقة سبق أن تعرّضت لسرقات من دون أن يتحرّك حسّ أحد من المعنيين لتأمين الحدّ الأدنى من الحماية.
أمّا السؤال الأهمّ فيتعلّق بالخطوات المتّخذة من أجل الحفاظ على أرشيف وطني لا يُقدّر بثمن، كالمكننة والتزام الإدارات العامة القانون من حيث إيداع أرشيفها لدى مستودع المحفوظات الوسطي في «مؤسّسة المحفوظات الوطنية». يقال إنّ الصورة تساوي ألف كلمة، أي إنّ ثلاثة ملايين صورة لا بدّ من أن تساوي ثلاثة مليارات كلمة بهذا المبدأ، هي جزء من تاريخ لبنان وذاكرته الوطنية. لم تتعدّ الخسائر المادّية بضعة آلاف الدولارات، لكنّها فعلياً أكثر من ذلك بكثير، إذ إنّ الصور المؤرشفة، كما الشرائط لدى «تلفزيون لبنان» مثلاً، قد يبلغ سعر الواحدة منها مئات آلاف الدولارات، فيما تباع بعد سرقتها بسعر بخس نسبياً، وسبق أن ظهرت شرائط مسروقة من «تلفزيون لبنان» على وسائل إعلام محلّية وعالمية.
اختفاء ثلاثة ملايين صورة لمناسبات تعود إلى تأسيس الوكالة عام 1961


السرقة التي تعرّض لها أرشيف «الوكالة الوطنية للإعلام» يجب أن تدقّ ناقوس الخطر لدى السلطات المعنية، فهذه إدارة رسمية، وإن لم تعد الإدارات الرسمية بمنأى عن الخطر، فذلك يعني احتمال تعرّض أيّ منها في أيّ وقت لسرقة أو تخريب أو تلف ملفّاتها، مع ما يعنيه كلّ ذلك من انحلال الدولة. أمور حصلت في السابق، إلّا أنّ الخطر تضاعف اليوم مع الانهيار المستمرّ الذي يشلّ عمل الدولة ومؤسّساتها وقطاعاتها الحيوية. لكن مهما بلغ الانهيار من مستويات قياسية، فالحماية أولوية، وتحقيقها قد لا يستدعي حلولاً مكلفة إن وُجدت الإرادة والقرار. «الوكالة الوطنية للإعلام» كما «تلفزيون لبنان» و«إذاعة لبنان»، هي العواميد الإعلامية الأخيرة المتبقية التي تحتفظ بذاكرة اللبنانيين الجماعية، وهي أحد آخر ما يجمعهم بعدما عملت على تفرقتهم وسائل إعلام الطوائف والأحزاب ورجال الأعمال. لذا فإنّ دعمها والاعتناء بها هما واجبان اليوم أكثر من أيّ يوم مضى.