اليقظة كانت مؤلمة بالنسبة إلى غالبية الأوروبيين في 24 شباط (فبراير) 2022. بعد عقود طويلة من التنعّم بالسلم والرخاء ورغد العيش، اكتشف هؤلاء أن الحرب وما يصاحبها من أهوال لن تبقى محصورة في بقاع بعيدة من جنوب العالم، لا يعرفون كيفية لفظ أسمائها في كثير من الحالات، بل هي باتت على بوابة «البيت الأوروبي»، وقد تتّسع لتشمله. انبرى سلافوي جيجيك (1949)، الفيلسوف «الما بعد حداثي-الهيغلي-الماركسي»، ليلعب دور «المثقف العضوي» الناطق باسم هذا المركز الإمبريالي، عندما دقّ ناقوس الخطر أمام ما اعتبره «تجاهلاً للواقع القاسي خارج حدوده» من قبل الأوروبيين، في مقال نشره في «ذي غارديان»في 21 حزيران (يونيو) 2022. يأتي هذا الموقف في سياق وصل فيه الاستقطاب الأيديولوجي-السياسي حول الحرب الدولية في أوكرانيا إلى ذروته، وانعكس في الغرب تعبئةً شاملة فكرية وإعلامية على قاعدة مبدأ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، لخنق أو تهميش أي صوت نقدي أو معارض للسياسات الرسمية حيال الحرب المذكورة.

وقد أشار الكاتبان سيرج حليمي وبيير ريمبير، في العدد الأخير من «لوموند ديبلوماتيك» (آذار/ مارس 2009)، في مقال بعنوان «وسائل الإعلام، طليعة حزب الحرب»، إلى صيرورة هذه الأخيرة «إعلاماً حربياً» في تغطيتها للنزاع الدائر حالياً، وغياب أي مراجعة نقدية لهذا الأمر، على رغم مرور عام على اندلاع الصراع، على عكس ما جرى بضعة أشهر بعد حربَي كوسوفو (1999) والعراق (2003). بكلام آخر، لا تشكل مواقف جيجيك استثناء، بل تندرج في إطار الاستنفار العام الذي تشهده القارة العجوز، والغرب بشكل عام، لنخبها وقطاعات وازنة من مجتمعاتها، سعياً للانتصار في معركة عالمية تخاض في أوكرانيا، ستحدد مآلاتها عملية إعادة توزّع القوة في النظام الدولي، والتوازنات المستجدة التي ستحكمه. سلسلة المقالات والمقابلات التي ارتكبها جيجيك أخيراً، تشي بانحيازه العميق للهيمنة الغربية، وبكونها امتداداً لتراث «اليسار الإمبريالي»، أي الأحزاب الاشتراكية-الديمقراطية التي حكمت دولاً أوروبية في فترات مختلفة، وشنت حروباً عدوانية أو شاركت فيها، رغم دفاعها عن «توزيع أكثر عدلاً للثروة» في داخل هذه الدول. الناتو بنظره «شر لا بد منه» والأولوية هي لـ«صدّ البرابرة عن حياض الحضارة» أو عن «حديقة جوزيب بوريل» إن شئتم.

الناتو «شرّ لا بد منه»
على الرغم من الاحتفاء المستمر لوسائل الإعلام الغربية الرئيسية، وغير المحسوبة على «اليسار» ــــ هذا المفهوم الذي بات، أكثر من أي مرحلة ماضية، ضبابياً، وحتى تضليلياً في الكثير من الأحيان ــــ بإسهامات سلافوي جيجيك النظرية، وكتاباته السياسية، فإنّ الأوساط التي تعيرها اهتماماً فعلياً، وتتفاعل مع موضوعاتها، هي تلك المحسوبة على التيار المعارض للرأسمالية النيوليبرالية، ولمفاعيلها الاقتصادية والاجتماعية في داخل بلدان الغرب أولاً. وبما أن بعض مكونات هذا التيار ربطت هذا النمط من الرأسمالية بسياسات الحرب والعدوان التي اعتُمدت في بداية الألفية الثانية بذريعة مكافحة «الإرهاب»، وكانت مناهضة لها، ومعادية للناتو تقليدياً، فان جيجيك أخذ على عاتقه مهمة محاولة إقناعها بأنّ هذا الحلف «شرّ لا بد منه» لمساندة أوكرانيا في مواجهة «الغزو الروسي». يتعامى جيجيك بدايةً عن خلفيات النزاع الراهن من منظور روسيا، أي تمدّد الناتو وصولاً إلى حدودها، ولا يُقيم وزناً لجميع حججها المتصلة بما يمثله من تهديد لأمنها القومي، ويرى أن الدوافع الحقيقية لتدخلها العسكري هي إمبراطورية بالمعنى البدائي للكلمة، أي تعطّش موسكو للسيطرة على الأراضي الخصبة في شرق أوكرانيا، ضمن مخطط يهدف إلى احتكارها قسماً عظيماً من الإنتاج الزراعي الحيوي في العالم.
وهو يلفت إلى جهودها لتنمية الإنتاج الزراعي في سيبيريا، وسعيها إلى التحكم بطرق النقل البحري للغذاء شمالاً، مع ذوبان القطب الشمالي، ليخلص إلى أنّنا أمام عملية توسع استعماري وحشي، شبيهة بتلك التي سادت في عصور غابرة من التاريخ، عندما كانت الدول تغزي بعضها بعضاً، أو تتنازع، للاستيلاء على الأراضي الخصبة. المفاضلة تالياً، برأي الفيلسوف السلوفيني، هي بين مشروع لابتلاع أوكرانيا، سيتغوّل لاحقاً حيال «دول البلطيق وفنلندا، والبوسنة وكوسوفو، وباقي أوروبا»، وبين انضمام أوكرانيا الكامل إلى المنظومة الرأسمالية الغربية، التي قد ينجم عنها بعض السلبيات على المستويات الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة إلى سكانها، لكنها أقل خطراً عليهم من الاحتمال الأول. وللتصدي للـ «دبّ الروسي»، والقيام بـ «أقل الواجبات حيال أوكرانيا، وهي الدعم الكامل، نحتاج لناتو أقوى»، وفقاً لتعبيره. ورد ذلك في المقال المشار إليه سالفاً، وعنوانه «الخيار السلمي هو الرد الخاطئ على الحرب في أوكرانيا». يدلي جيجيك برأيه في نقاش يشارك فيه يساريون آخرون، وغير يساريين، من أنصار «المدرسة الواقعية» في السياسة الخارجية، يعتقد بعضهم، على الرغم من عدم تأييدهم للتدخل الروسي وتعاطفهم مع «المقاومة الأوكرانية»، بضرورة طرح أفق تفاوضي للصراع الحالي، لمنع استعاره وتحوله إلى صدام مباشر بين القوى العظمى، قد يتضمن «تنازلات» لروسيا، كالموافقة على الاحتفاظ بالمناطق الناطقة بالروسية في الدونباس. هو لا يقبل سوى بهزيمة كاملة لروسيا، تردعها عن «غيّها» تجاه جوارها القريب، وعن «واحة» الحضارة والمدنيّة والرقي، أي أوروبا.

صدّ «البرابرة» عن حياض «الحضارة»
أوروبا جيجيك، هي «حديقة» جوزيب بوريل، مسؤول السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، المهددة من «الغابة». هو شرح، في مقابلة مع «داي فيلت» الألمانية في 27 كانون الثاني (يناير) 2016، رؤيته للنموذج الأوروبي، الرأسمالي الليبرالي الديموقراطي، الذي «لديه ما يقدمه للعالم»، على عكس «أصولية السوق الأميركية»، و«الرأسماليات الاستبدادية» في روسيا والصين.
هذه الحدة في مواقفه متأتية من إدراكه لضمور نفوذ الغرب على النطاق الدولي

بكلام آخر، هذا النموذج هو «أفضل المتاح» في ظل اتساع رقعة التوحش على صعيد دولي. خصصت هذه المقابلة في الأصل لمعرفة تعليق جيجيك على ما عرف بـ «حوادث التحرش» التي شهدتها مدينة كولونيا في ألمانيا في مطلع عام 2016. شن الفيلسوف هجوماً عشوائياً على اللاجئين والمهاجرين، «المسكونين بالغيرة والحقد حيال الغرب المترف»، بحسب تعبيره، متبنياً الاتهامات الموجهة إليهم حول مسؤوليتهم عن هذه الحوادث من دون أي دليل، ومطالباً أوروبا بأن «تفرض على المسلمين القادمين إليها احترام قيمها». وهو أعلن رفضه فتح حدود الاتحاد أمام دخول المهاجرين، كما يفعل بعض اليساريين، «انطلاقاً من شعور بالذنب»، ودعا إلى اعتماد سياسة انتقائية في مجال الهجرة، وإقامة مراكز تجميع لللاجئين في بلدان كليبيا أو تركيا أو لبنان. يخشى جيجيك تدفق ضحايا الغرب الأورو-أميركي، من أبناء البلدان المنكوبة بسبب سياساته، نحو المراكز الإمبريالية، ويتناسى مسؤولياتها التاريخية والراهنة عما اسمته كاتبة أفريقية «نهاية دنياهم». هذه الحدة في مواقف جيجيك متأتية في الحقيقة من إدراكه لضمور نفوذ الغرب على النطاق الدولي وصعود دور الآخرين غير الغربيين، وما سيستتبع ذلك من نهاية لعصر وفرة وازدهار، كانا نتاجاً لهيمنة إستراتيجية بلا منازع، غير أنها تتداعى الآن.