«إنّها الحرب التي تجعلنا نفرح بكل غباءٍ. الفرح بكلمة هدنة قبل أن ندرك معناها. الفرح بإتمام العام الدراسيّ ذلك الصيف دون امتحانات. الفرح لأننا كنا نجيد تقليد أم علي وهي تصرخ لابنها من الطبقة الرابعة باللهجة الجنوبية ذاتها: «يا حَسِن بدك كداديش»، وكنا نردّدها قدر ما كان يساعدنا النفس ونضحك. شياطين الدومينو في حالة فرح. فرح سطول المياه الفارغة. فرح الشظايا. فرح الرصاص المنثور على الطرقات. فرح انقطاع الخبز. فرح السكوت عن سارق إلياس الدكنجي. هكذا كنّا. كتلة فرح شيطاني».هل يمكن أن تكتب رواية موازية للحرب الأهلية اللبنانية، من ذكريات شخصية ويوميات حميمة مثل ذلك الذي نجده في المجموعة القصصية «شياطين الدومينو ـــ حكايات وهمية من بناية حي المعلوف» (دار النهضة العربية) لمنى مرعي؟ هل يمكن كتابة التاريخ الصعب لحقبة ما من خلال موشور مايكروسكوبي ينطلق من ذاكرة طفلة تسمي نفسها وأصدقاءها «شياطين الدومينو»، وهم يلهون على أدراج بناية المعلوف في أصعب فترات الحرب الأهلية اللبنانية بكل فظائعها ونكباتها وأهوالها؟


على امتداد عشر قصص، تجيد منى مرعي تحويل هذا التاريخ الصعب إلى قصص مشوقة وإلى سرد نصدّقه أكثر مما نصدّق الروايات الرسمية للقوى المتصارعة في حينها، بحيث تمّحي الحدود في الكتابة بين التاريخ والحكايات، ولو أنّ مرعي تصدر كتابها بالنفي التقليدي لتقاطع الأحداث مع الواقع: «لا تمتّ أحداثُ الصفحاتِ التالية ووقائعُها إلى الواقع بأيّ صلة. كل ما سيَرِدُ يمكنُ تصنيفه ضرباً من ضروب الخيال. ولئن تشابهت الأسماء والأمكنة، فذلك ربما من باب الصدفة الحسنة أو السيئة. وأيّ تقاطعٍ لقصصِ هذه المجموعة مع قصص أشخاص حقيقيّين، وأحداثٍ وأمكنةٍ حقيقيّة، هو محضُ مصادفة، وهو أيضاً من غرائب هذا الزمن الودود اللدود». سرعان ما يكتشف القارئ، لا سيما إذا كان ينتمي لذلك الجيل الذي عايش الحرب بتفاصيلها أن مرعي تنهل من ذاكرة الحرب الأهلية التي لا تنضب، ومن قاموس مفرداتها الذي صنعه الملجأ وأنواع القذائف والنزوح والعبثية والقتل المجاني بعينَي طفلة تجمع إلى البراءة وعياً تأملياً مسبقاً بالأشياء: «حين كنت في الخامسة من عمري، مارست طقوس الاختفاء مراراً. غالباً ما يتلذذ الأطفال بالتخفي. يدركون ما لتلك اللعبة من متعة. المحاولات الأولى تبدأ وهم رضّع. يختفون خلف أصابعهم. يختبرون الظلمة، ويكتشفون حقولاً بصرية وهم يلهون بأصابعهم. يتمتعون بتلك اللحظة التي يسمعون فيها «بقّى... بقوّسي». يتعلمون بالفطرةِ من أربابهم الذين ينقلون إليهم تلك اللعبة، أن التخفي فعل غامض، للوهلة الأولى على الأقل، ثم يكتشفون من محاولات الأرباب المتكررة أنه أيضاً فعلٌ باعثٌ على المفاجأة والضحك». تبدأ مرعي برسم بورتريه شخصي للطفلة الراوية وأصدقائها من «شياطين الدومينو» ووصف تفصيلي للمكان في القصة الافتتاحية للمجموعة بعنوان «happy dry» والقصة التي تليها «تخفٍّ» حيث لا يمكن تحديد جغرافيا المكان من غير جغرافيا الوطن الصغير المقطّع الأوصال: «وكنا، نحن، أحجارَ الدومينو. لم نتحول بعدُ إلى شياطين.
كان كلّ منا في ركنٍ ما، في مبنى ما، في حيٍّ ما من أحياء بيروت، إلى أن اندلعت حرب أخرى، فبات المبنى الذي نسكنه ملعباً فسيحاً لترتيب أحجار الدومينو ولإخراج الشياطين من ثقوبها البِيض؛ ثقوب التهجير، التهجير المضاعف. بعضنا تهجّر من الجنوب إلى هنا، وبعضنا تهجّر من هنا إلى بيروت الشرقية، وبعضنا تهجّر من تل الزعتر إلى هنا، وبعضنا كان قد تهجّر من منصورية بحمدون إلى الرملة البيضاء في بيروت، وبعضنا ترك بتاتر ليسكن في شارع الحمرا، وبعضنا هُجِّر في إحدى المعارك من الصفير في الشياح إلى الرملة البيضاء، وعاد إلى هنا».
كما أن الفتاة الصغيرة التي ترتاد مدرسة إحدى الإرساليات للغناء في الكورال الكنسي واللهو مع أترابها في الملعب الفسيح للمدرسة، ستبدأ في طرح الأسئلة الكبرى على شرفة بناية حي المعلوف التي تشكّل مختبراً للتعايش بين الطوائف المختلفة التي تقطنها، فتطعّم مرعي السرد بحوارات بالعامية اللبنانية من شرفة لأخرى مع ابن الجيران حول القضايا الحساسة للمراهقة والبلوغ أو في الحوار مع الأب العلماني موظف الدولة حول قضايا الديانة والإيمان.
في القصص اللاحقة ولا سيما «حقيبتا يد...حبّ القذائف والرصاص الطائش» و«راديو كاسيت» و«حبة زهرية»، نشعر بنوع من الوخز الخفيف حين تسرد مرعي ذكريات عايشها القسم الأكبر من اللبنانيين من الاحتفاء بالمتع البسيطة بين جولات العنف في الملاجئ ولا سيما الأطفال، فتمسك بيدنا في تمرين على التذكر وإعادة نسج الماضي قطبة فقطبة كما هو عنوان إحدى القصص: «إنها الحرب التي تجعلنا نفرح مجدداً بعودة التيار الكهربائي فيتسنّى لنا متابعة «جونغر البطل الجبار» الذي كان قد علق في مشغّل الفيديو. غالباً ما يعلق الكاسيت لأيام قبل أن تعود الكهرباء. حينها يصبح جونغر البطل الجبار، بطلاً ممغوطاً بالصوت والصورة مع علك شريط الكاسيت. ثم نفرح لعودة المعارك في المناطق المجاورة دون أن ندري كم تبعد تلك المناطق منا، ودون أن نعرف من هي الأحزاب المتناحرة. جلّ ما يفرحنا كان، بالإضافة إلى توقّف الدروس في المدرسة، جمْعتنا كأطفال على حافات الدرج في الطبقة الرابعة كونها الأكثر أماناً، ونومنا جميعاً نحن أحجار الدومينو وشياطينه جنباً إلى جنب بلا مخادّ، نتقاسم شراشف القطن البِيضِ والزهرية؛ شراشف أيام الحرب، وتلك الرائحة. كنا ندّعي النوم ونحن نضحك على كل شيء. لعبنا الورق».
تجيد المؤلفة تحويل هذا التاريخ الصعب إلى قصص مشوقة


لا يفوت مرعي استحضار بعض فظائع المسلّحين حين يجعلون من أحد المراهقين من جنسية أجنبية كيساً للملاكمة ويجبرون الأطفال على ركله والتنكيل به. تبدو القصتان الأخيرتان «بانيو» و«يوسف زلويو الآدمي» بعيدتين قليلاً عن جو المجموعة، إذ نعثر في الأولى على فانتازيا خالصة بلغة حسية مادية ونوع من الواقعية السحرية لدى المرأة الفاتنة التي يعاني زوجها من قصور جنسي، فتلجأ إلى الخيال الذي تأخذ فيه الشهوة مداها الأقصى. كما أن قصة «يوسف زلويو الآدمي» الأخيرة التي تحتل قسماً معتبراً من المجموعة في حفرها في قضايا الهجرة قبيل الحرب العالمية الثانية وأجواء بيروت ما قبل الحرب الأهلية بأسواقها وموزاييكها المتنوع وصراع الهويات فيها، يمكن تطويرها إلى رواية تذكرنا بالأعمال الكبيرة التي تصنع تاريخاً أدبياً للبلد-البيت بمنازله الأخيرة. تاريخ هو أصدق مما نجده في كتبه الأصلية.