لم يكن المترجم والشاعر والباحث الفرنسي أندريه ميكيل (1929-2022) الذي رحل الأسبوع الماضي، ليرتضي بلقب «المستشرق». هو الذي درس اللغة العربية وعشقها منذ أن تعلّم الأدب العربي بنصيحة من الأستاذ «ماسيه»، الذي كان يدير «المعهد الوطني للغات الشرقية» في باريس: كان ميكيل، في بداية مسيرته الأكاديمية، متردداً بين تعلّم اللغة الألمانية، أي لغة العدو كما نصحه والده، أو الإنكليزية. لكن شغفه بالآداب الإنسانية دفعه إلى تجاوز الآداب الكلاسيكية كالفرنسية والألمانية واليونانية والتخصّص في الآداب المقارنة، ثم اختيار إحدى اللغات الشرقية في بداية الخمسينيات من القرن الماضي لتبدأ رحلة الشغف بلغة الضاد بعد إلمام بالفارسية. علاقة لم تبدأ بقراءة القرآن، بل بآثار الجغرافي العربي ابن حوقل الذي أبهره في المزج الفريد للجغرافيا بالملاحظات الثقافية والاجتماعية، ما تسبّب في تعميق معرفته بالحضارة الإسلامية أثناء تأليفه أربعة أجزاء عن جغرافية العالم الإسلامي. بعد عشرة أعوام من البحث والكتابة، سينجز موسوعته «جغرافيا العالم الإسلامي» (1973)، التي يعتبرها أهم ما كتب في حياته، وقد لاقى الكتاب رواجاً كبيراً في العالم العربي وتُرجم إلى لغات عدة.
موسوعته «جغرافيا العالم الإسلامي» (1973) تُرجمت إلى لغات عدة (صوفي باسول ـ وكالة «غيتي»)

بدأ ميكيل أولاً بدراسة النحو والخضوع لتمارين تحت إشراف المستشرق الكبير بلاشير، فكانت ترجماته الأولى ملاحظات للجغرافي المقدسي نقلها إلى الفرنسية (1951) ليبدأ باكتشاف الرحابة الإنسانية للغة العرب واحتوائها على رسالة إنسانية وقدرتها على تكريس المعنى وتمريره في الذاكرة من خلال نظام الحروف الساكنة، هو الذي يقول في إحدى مقابلاته إنه عدّ هذه الميزة اكتشافاً مبهراً. كما كانت الرحلة مع كتابة العربية والنطق بها متعة ومشقّةً على حد سواء، إذ أذهلته في قوة اختصاراتها واشتقاقاتها ومحافظتها على معاني جذورها ووضوح هذه الجذور، وهو ما تفتقده لغته الفرنسية الأم.
بدأ ميكيل باكراً بترجمة الآثار العربية الكلاسيكية إلى الفرنسية، فشرع أثناء إقامته في دمشق عام 1953 في ترجمة «كليلة ودمنة»، الذي اعتبره أستاذه بلاشير نثراً عربياً واضحاً، فحاول معرفة المدى الذي وصله مواطنه لافونتين في مقاربة الحيوانات وتوظيفها كرموز بعد قرون من تحفة ابن المقفع، ثم ترجمة قصائد أبي العتاهية لإعجابه بتأملاته الوجودية وسهولة جملته التي لم تكن معقدة كجملة المتنبي: «كان (أبو العتاهية) الأسهل للترجمة من العربية إلى الفرنسية، من بين الشعراء الآخرين، ولم ألجأ إلى القواميس وأنا أترجم أشعاره من منظور إبداعي وفلسفي». كما أنجز ترجمة لديوان مجنون ليلى (2016)، القصة التي سحرته حين قارنها بأسطورة تريستان وإيزولت كما جاءت في إبداع فاغنر، وتقاطع القصتين حول مفهوم الحب الحقيقي المستحيل، ثم توظيف الإيرانيين اللاحق لها من منطلق الحب الصوفي عند المسلمين، ناهيك باستلهام أراغون لها في رائعته «مجنون السا».
لقاء ميكيل بالشاعر والمترجم الجزائري الكبير جمال الدين بن شيخ (1930-2005) أثمر عن تعاون أفضى إلى إنجاز مشترك عظيم بين الرجلين: ترجمة جديدة لكتاب «ألف ليلة وليلة» في سلسلة «البلياد» الشهيرة الصادرة عن «دار غاليمار» (2005)، إذ أبهرت «الليالي العربية» ميكيل في «كتابتها المجففة والمبنية للمجهول، فهي ليست لكتّاب وأدباء معروفين، وليست كتابة فولكلورية في الوقت نفسه، لذلك تفلت من كل محاولة تصنيف جاهز، وتنتقل من الرواية والشعر والقصة إلى الحكاية الصغيرة والرعب والملحمة التاريخية والرواية العاطفية الاجتماعية والوقائع اليومية». كانت هذه الترجمة الجديدة إنجازاً سيدين به ميكيل لزميله ابن شيخ طيلة حياته، إذ يرثيه بما يليق به حين يصف التجربة المشتركة في ترجمة العمل الخالد: «لقد اتفقنا أن نترجم استناداً لمبدأ الحرية المطلقة، والإحساس المطلق عند مقاربة تحفة أدبية تاريخية مثل «ألف ليلة وليلة»، الأمر الذي ترك كل واحد فينا يضع لمسته الخاصة. اتفقنا فقط على صيغ البداية والنهاية، وبطبيعة الحال كنّا نتشاور من حين إلى آخر. رحيله شكّل صدمة شخصية في حياتي الخاصة، لا المهنية، إذ فقدت صديقاً حميماً لا مترجماً عادياً كان يشاركني الترجمة. لحسن الحظ ترجم جمال قبل رحيله ما كان كافياً، أي النصف تقريباً، وأكملت أنا النصف الآخر. لقد اشتغل على الترجمة وهو مريض، وأودّ أن أطمئن قرّاء الكتاب أنه كان واعياً تمام الوعي وهو يترجم، ولم يتوقّف إلا قبل موته بقليل».
عمل ميكيل كمدرّس في «كوليج دو فرانس» لمدة 21 عاماً في اختصاص «اللغة والأدب العربي الكلاسيكي»، وكمدير للمعهد العريق لستّ سنوات، فنجح في إدراج العربية في المنظومة التعليمية الفرنسية بعد تجاهلها لقرون عدة، تحت وطأة الحس الاستعماري أو بتأثير ما سمّاه «استشراق الواجهة»، الذي يمكن تلمّسه في لوحات دولاكروا (نساء الجزائر) وصولاً إلى ما كتبه فيكتور أوغو حول الشرق، وهو ما حاربه ميكيل بقوة: «أنا لا أعرف معنى للاستشراق بهذا الشكل، أنا درست لأصبح مستعرباً لا مستشرقاً. أنا مستعرب وسأبقى مستعرباً، وتعلّمت اللغة العربية وسحرت بالأدب العربي».
قدّم مع المترجم الجزائري الكبير جمال الدين بن شيخ ترجمةً جديدةً لكتاب «ألف ليلة وليلة»


العقل المتنور الذي سار على هدي أستاذه جاك بيرك الذي علّمه أن الأدب هو مفتاح لفهم المجتمع ومقاربة العالم فكرياً، نذر حياته لمحاربة القراءة الأيديولوجية للإسلام واختزال المدرسة الاستشراقية الدورَ الذي لعبته الحضارة الإسلامية بصورة ضيقة وخاطئة وغير حقيقية في منطق ثنائية شرق ــ غرب ضمن خلط منهجي رهيب. إذ إنّ قراءة ميكيل للإسلام من خلال الجغرافيا، فتحت الأفق لقراءة حضارته كحيّز مكاني، وثقافة وتاريخ كثير الثراء، فاقترح في مؤلفاته، ولا سيما «الإسلام وحضارته» (1968) وفي كتابه الأخير «عربي من قرن إلى قرن» (2020)، التعامل مع هذا التاريخ برمّته ومع آخر الأديان السماوية كبوتقة جامعة: بوتقة لا يمكن اختزالها بشعب واحد من مكوناتها، أو بحقبة تاريخية محدّدة، بل يجدر التعامل معه كدينامية ضمن الحركة الكبيرة للعالم الذي ترسّخ فيه، وأصرّ على رسم صورة للحضارة الإسلامية بكل تنوعها وتعقيداتها منذ البدايات حتى زمننا الراهن. اعتقل أندريه ميكيل في القاهرة عام 1961 أثناء عمله الديبلوماسي في البعثة الفرنسية بتهمة الجاسوسية، هو الذي كان قد عُيِّن في سياق عودة العلاقات الفرنسية ــ المصرية بعد حرب السويس. إلا أنه خرج من السجن بعد وقت قصير على اثر توسط المستشرق ماسينيون برفقة جاك بيرك وريجيس بلشير لإطلاق سراحه لدى الرئيس اليوغوسلافي تيتو الذي كان صديقاً للرئيس جمال عبد الناصر. مع ذلك، لم يثن الاعتقال من عزيمة ميكيل الذي ظل محبّاً للغة العرب وحضارتهم حتى الرمق الأخير، ليخسروا برحيله صديقاً ظلّ عربياً في روحه من قرن إلى قرن.

* المراجع: مقابلة لأندريه ميكيل مع بوعلام رمضاني (مجلة «الدوحة»، العدد 181، سبتمبر 2022)