ترجمة وتقديم: رشيد وحتي
يتزامن العدد الأخير من «كلمات» لعام 2022، مع مناسبتين: أعياد الميلاد ونهاية السنة. وعليه اخترنا لهذا الملف أن يجمع الحدثَيْن، وأن يربط بينهما بجعلهما، في انحياز كامل لمستضعَفي الأرض، حدثاً واحداً يحيي آمالَ الفقراء في أن يرثوا الأرض في نُظُمٍ سياسيَّة، إن لم تكن أكثر عدلاً، فلتكن، في أدنى حدٍّ أقلَّ ظلماً بتوزيعها لخيرات العالَم وتحقيقها لتطلُّعات الشعوب في تحقيق مساواة اجتماعيَّة وسلام عميم يبشِّرُ بهما الجميع عند مطلع كلِّ عام. حرصنا على أن تتوزَّع النصوص على مختلف الآداب الوطنيَّة العظيمة التي ترفد الآداب العالميَّة بنصوص مهمَّة تمثِّل كلّ الرقع الجغرافية عبر الأرض، وفي الأخير، ذيَّلنا الملف برؤى فكريَّة يساريَّة تنتصر للرسالة الاجتماعيَّة الثورية التي أتى بها يسوع، كشخصية مركزيَّة في كامل تاريخ شعوب الشَّرق، ولدى كل من يجعل من فتى النَّاصرة الأحمر رمزاً لمقاومة رومانِ وصَدُوقِيِّي هذا العصر.

«المسيح طارداً المرابين من الهيكل» لال غريكو (زيت على لوح ــ 1568)


أ. غوستاف فلوبير: مَدَامْ بُوفارِي، 1857
كانت زخارف الدنتلَّا، مشابك الماس، الأساور الموشَّاةُ، ترتعش فوق الفساتين، تتلألأ فوق الصدور، تجلجل فوق الأذرع العارية. أما جدائل الشعر، الملتصقة بالجباه برونق والملتوية عند الرَّقبة، فقد كانت تيجانُها في شكل عناقيد وغصون، من زهرة أذن الفأر، الياسمين، الجلَّنار، السنابل أو زهرة التَّرْنُشَانِ. خفق قلبُ إِيمَّا قليلاً عندما داعب فارسُها في الرقص رؤوس أصابعها، فتقدَّمت نحو الصفّ في خط مستقيم في انتظار ضربة قوس الكمان كي تشرع في التَّقدُّمِ نحوه للرقص.
■ ■ ■

ب. فرانسيس سكوت فيزجيرالد: غاتسبي العظيم ـ 1925
البارُ يشتغل بكامل طاقة تشغيله والكوكتيلات تطفو على الصينيَّات في رحبةِ المتنزَّه الذي تضفي عليه روائحَها، بشكل رائع، بحيث بدأ الهواء يرتجُّ بالثرثرات والضحكات، بتلميحاتٍ خَدِرَةٍ، وما إن ينتهي المرءُ من تقديمِ نفسه للآخر حتَّى يُنْسَى، وبلقاءات حماسية بين نساء لم تعرف قط الواحدة منهنَّ اسمَ الأُخرى.
■ ■ ■

ج. عبد اللطيف اللَّعبي: ماذا أعددتَ لرأس السَّنة (قصيدة غير منشورة)
أيْ بستانيَّ الروحِ
هل توقَّعتَ للسنة الجديدة
مربَّعاً من الأرض البشريَّة
لتغرس فيها مرَّة أخرى بضعةَ أحلام؟
هل اخترتَ البذور
شمَّستَ عُدَّةَ الشغل
استشرتَ تحليقَ الطيور
لاحظتَ النجومَ، الوجوهَ
الحصوات والأمواجَ؟
أما حدَّثَكَ الحُبُّ في هذه الأيام
في لغته الغريبة؟
هل أشعلتَ شمعةً أُخرى
لجُرح الليل في كبريائه؟
ولكن انطق
إنْ ما زلتَ هنا
قل لي على الأقل:
ماذا أكلتَ وماذا شربتَ
[النص الفرنسي من الموقع الشخصي للشاعر]
■ ■ ■

3. شذرات في استقبال رأس السَّنة
- ما قرنٌ من الزَّمن؟ إنه دقيقةٌ في اللَّيل. (فلوبير)
- سنةٌ تنتهي، إنها حجرٌ ألقيَ في قاع صهريج الأزمنة ويسقط بِرَنَّات الوداع (فيرمين فان دِنْ بوش).
- ما السَّنة إن لم تكن حجماً لا نهائياً من كمشة ثوانٍ. (دومينيك رولان).
- تأتينا السنون دون ضجيج. (أوفيد)
- ما مِنْ شيء ينساب سريعاً أكثر من السنين. (ليوناردو دافنشي)
- الأول من كانون الثاني هو اليوم الوحيد في السنة الذي تنسى فيه النساء ماضينا بفضل حاضرِنا. (ساشا غيتري).
- نحن لا نشيخ بِمُرَاكَمَةِ سنة على أخرى، بل نتجدَّد يوماً بعد آخر. (إميلي ديكنسون).
- سنحتاج يوماً إلى تأشيرة من أجل المرور من 31 كانون الأول إلى الأول من كانون الثاني. (جاك سْتُرْنْبِرْغ).
- لِنُحَيِّ جميعاً هذه السنة الجديدة التي تجعل الشيخوخة تدبُّ في صداقتنا، لا في قلوبنا. (فيكتور أوغو).
- سنةٌ جيِّدةٌ تعوِّضُ خسائر سنتين سيِّئتين (فولتير).
- كانون الثاني هو الشهر الذي نقدم فيه أطيب التمنيات إلى أصدقائنا. وباقي الأشهر، هي حيثُ لا يتحقَّق منها شيء. (لِيشْتُنْبِرْغ)
- لو شاءت الآلهة أن تحقق أماني البشر الفانين، لكانت الأرض قفراء منذ زمن، ذلك أن البشر يطلبون الكثير من الأشياء المضِرَّة للجنس البشري. (أبيقور).
- أقدارُكَ أقدار إنسان، وأمانيكَ أماني إلهٍ. (فولتير).
■ ■ ■

4. يسوع النَّاصري ثائراً (أربع رؤًى ماركسية)
أ. كَارْلْ كَاوْتْسْكِي: يسوعُ مُتَمَرِّداً
وصل يسوع إلى أورشليمَ من أجل الاحتفال بأعياد الفُصح، فطرد الباعة والصَّيارفة من الهيكل، وهو ما لا يمكن تصوُّره من دون تدخُّل عنيف من حشود مهمة كان قد حرَّضَها. بعد قليل من ذلكَ، خلال العشاء الأخير، ومباشرة قبل يوم آلامه، قال يسوع لمريديه: «لكِنِ الآنَ، مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. لأني أقول لكم إنه ينبغي أن يتم فيّ أيضاً هذا المكتوب: وأُحصيَ مع آثمة، لأن ما هو من جهتي له انقضاء. فقالوا: يا رب هو ذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي» (لوقا، 22:38). مباشرةً بعد ذلك، في جبل الزَّياتين، بدأ الاصطدام مع السلطة المسلَّحة للدَّولة الرُّومانية. (من كتاب «أصول المسيحيَّة»، 1909)
■ ■ ■

ب. أَنْدْرِي مَالْرُو: ... وفوضوياً
— والمسيح؟ — إنَّه فوضويٌّ انتصر. إنَّه الأوحد من بينهم. أمَّا بخصوص الكهنة، فإنَّكم لا تستوعبون ربَّما كلامَهم جيِّداً، لأنَّكم لم تكونوا أبداً فقراء. أنا أكرهُ أيَّ إنسان يريد أن يغفر لي ما فعلتُه لأنَّه أحسنُ ما فعلتُ. (من رواية «الأمل»، 1937)
■ ■ ■

ج. فالْتِرْ بِنْيَامِينْ: ... ومهدِياً
في كلِّ حقبة، ينبغي مجدَّداً انتزاع التقاليد من الانصياع الذي يحاول السيطرة عليها. فالمِشْيَاحُ لا يأتي فقط كمخلِّصٍ وفداء؛ بل يأتي أيضاً كمنتصر على المسيح الدَّجَّال. فملكة إشعال شرارة الأمل انطلاقاً من الماضي أمرٌ لا يُصْطَفَى له إلَّا المؤرِّخ الرَّسمي المقتنع كليّاً أَنَّه لو انتصر، أمام العدوِّ، فحتى الموتى لن يكونوا في أمان. وهذا العدوُّ لم يَكُفَّ أبداً عن الانتصار. فمن خلالِه، في كلِّ ثانية، كان يُشْرَعُ بابٌ ضيِّق يمكن من خلاله أن يمرَّ المِشْيَاحُ (من كرَّاس «أطروحات حول مفهوم التاريخ»، 1940)
■ ■ ■

د. هادي العلوي: ... ومتصوِّفاً اجتماعياً
من جهة الحركة التي أثارها يسوع الناصري، فهي تحمل خصائص مشتركة مع تحرك سابقه سبارتاكوس ولاحقيه الحلاج وصاحب الزنج، إلا أنه اختلف معهم في خطة الحركة اختلافاً يرجع إلى تقديره لموازين القوى واتعاظه من فشل سبارتاكوس. وننبِّه هنا إلى أن القولة المشهورة عن كارل ماركس: «إن فشل سبارتاكوس مهّد لانتصار المسيح» يجب تعديلها لتكون: انتصار المسيحية. وللأسف لم أتوصل إلى النص الأصلي لمقولة ماركس واعتمادي على المترجمين، فلعله كان يعني المسيحية لا المسيح، وإلا فالمسيح لم ينتصر وكان حاله مثل حال سبارتاكوس والحلاج وصاحب الزنج الشهداء كلهم. أما إذا جعلنا انتصار بولص انتصاراً للمسيح، فينبغي أيضاً جعل انتصار حزب العمال البريطاني انتصاراً لكارل ماركس. وكما قلت، ففي المسيح تجتمع صفة الصوفي والتاوي، لكن ماهيته الصوفية والتاوية تتمظهر في نبوّة متحركة قائدة تحرّض وتنظم من دون أن تخضع لاعتبارات السياسة اليومية كنبوّة بني إسرائيل أو نبوّة محمد. فالمسيح يأخذ في أحلامه وأشواقه كما في مسلكه الشخصي صورة التصوف والتاو، وفي حركته صورة الحلاج لا صورة تشوانغ تسه أو البسطامي لأنه نزل إلى ميدان النضال المباشر. ويصعب في الحقيقة إيجاد نظير للمسيح لا كنبي ولا كمتصوف ولا في صفة التاوي، فهو شيء خاص اسمه المسيح. [...] تحرك المسيح وسط جماهير العبيد والفقراء، فكانت صلته كما تقرر في مسالك التاو والتصوف. وصدر عن نفس المسالك في قطعه مع الأغنياء وإخراجهم من ملكوته. وحرّم كنز الأموال مستعملاً نفس اللغة التي استعملها التاويون في «تاو تي تشينغ». والمسيح من آباء الصوفية الإسلامية وهو أقرب الأنبياء إليهم. وهكذا كان مع المعرّي. ومن بين الأنبياء، فهو نبي المشاعية الْأَمْيَزُ والأبرز. وقد حاول أن يعطي تحركه صفة الحركة الدينية التي لا تفكر في السلطة للتعمية على الرومان ريثما يشتد عود الحركة وتتسع في أوساط الجماهير. وفي حقيقة الحال أنه كان يسعى لإقامة معشر مشاعي داخل المجتمع الفلسطيني المحكوم بالرومان. ولا ندري بماذا كان يفكر زائداً عن ذلك. ومعشره المنشود يشبه معشر القرامطة الذي أقامه حمدان بن الأشعث في سواد العراق. وقد سعى حواريوه لمواصلة الرسالة من بعده لكنهم لم يجرأوا على المجاهرة بأفكارهم بعد الذي حل بنبيّهم، فكانت حركتهم شبه مجمّدة إلى أن تلقّفها بولس وسيّرها في الطريق الذي انتهت إليه ديناً يسمى المسيحية والمسيح لا علم له به. (من كتاب «مدارات صوفية، تراث الثورة المشاعيَّة في الشَّرق»، 1997)