لم يأت سحبان أحمد مروة طارئاً إلى ميدان الكتابة، أو بالمصادفة، أو كاتباً مبتدئاً؛ بل كان الأمرُ من بابه الأوسع، عبر التَّمرُّسِ في قراءة النصوص التراثية، وتحقيقِها (رسائل ابن عربي)، والانتخابِ منها، وترجمة ملحمة «الكاليفالا» الفنلندية، والنصوص المارِقة في الأدب الأوروبي (الماركي دو ساد). الرَّجل إذن نتاج مزيجٍ خلَّاق من التراث العربي-الإسلامي والآداب العالميَّة الحديثة، إضافةً إلى سيرته وواقِعه المعاش؛ وهو المسار التكويني الَّذي يمكنُ أن يكون قد لخَّصه في إحدى مناجيات كتاب نثره الفَنِّي «السديم والهشيم» حين يقول: «قال: — قف! فوقفت فقال: —من ترى؟ فنظرت إليه وقلت: — النوَّاسي، البسطامي، ابن سكرة، الحلاج، المعري، الرومي، شكسبير، سافو، المتنبي، بودلير، الهذلي، خمينيث، إنانا، إيزيس الإسكندر، أفلاطون، قيصر، المأمون، الصادق، الوهراني، ابن دانيال، سرفانتس، الكندي، بافاروتي، فلليني، بازوليني، أرمسترونغ، جدتي، حكاية الشاطر حسن، الجاحظ، عمتي فاطمة، التوحيدي، إميلي ديكنسون، عمي أسعد، مارك توين، المسيح، بوذا، تواكارام، لاوتسه، علي، ياسمينة أمي، خالتي مريم، أحلامي، أم سعد الله، الحاجة وفية، طريق بيتنا، عصا أبي، خوفي، رغيف السمن والسكر، المدرسة، حسن جمعه، حبيبتي وقد.. قلت وقلت وقلت، كنت كمن يلحق بذاكرته وهي تعدو حتى قاطعني: — ألا تراك؟ فقلت وقد رأيته يستحيل هباء: — فمن أنت إذن؟».في كتابة سحبان أحمد مروة تنتفي الثنائيَّاتُ، يصير النص بوتقة يمتزج فيها المقدَّس بالمدنَّس، اللاهوت بالنَّاسوت، الدِّينيُّ بالزَّمنيِّ، الوثني بالتَّوحيدي، الشعر بالنثر، الأنثوي بالمذكَّر، الأفقي بالعمودي، الهم الشخصي بآلام وآمال الجماعة. ووفق هذا التَّواشج، انتقينا من كتبه الثلاثة التي توافرت لنا، مجتزَءات تعبِّر عن كل هذه الملامح الفكرية والجمالية، بدءاً بشذرات ومناجَيات من كتاب «السديم والهشيم»، الذي نحا فيه منحى يقرِّبه من النفري والنَّسج على منوال «المواقف والمخاطبات» في حوار مفتوح بين وحي السماء وأولياء الأرض. وكي لا يغيب عن الملف الوجه الآخر لسحبان أحمد مروة، وجه المحقق والقارئ التراثي، انتخبنا مستطْرَفات مما اختارهُ الكاتب من «نوادر الملا نصر الدين الصغرى»، لإمكانية اعتبارها جزءاً أصيلاً من مؤلَّفات مروَّة، لكثرةِ تشرُّبه لها في النصوص التي كتبها.
أما الجزء الأكثر غنائيَّة وذاتيَّةً في مؤلفات الكاتب، فهو قصيدته الطويلة «قداس جنائزي لرشا محمود الحاج»، في رثاء أمه، الَّتي لا يغيب عنها أيضاً رثاء شقيقته يسار مروَّة، أولى شهيدات الحزب الشيوعي اللبناني وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. وجه الشاعر الغنائي المبهِج هذه المرة، سيتكرَّس مع ديوان «وصف ماريا»، الذي أفردَه لأحوال الجسد ووصف الشهوة في لغة متحررة من أسْرِ القيود الأخلاقيّ، من دون أن تخلو من نبرة دراماتيكية تجعل من الحُبِّ مأساةً في ثوب ملهاة. ويبقى الأجدَّ في الملف، تذييله بقصيدة تنشر للمرة الأولى، كانت ربما من آخر ما كتبه سحبان أحمد مروة.


كاليغرافيا عربية للفنان السينغالي يِلِيمَانْ فَالْ (زيت على ورق ــــ 2011)


1. السديم والهشيم
أوقفني في النار، فقلت:
— مجاز قدیم استعرته فتقدس الحقد والمقت والكراهية.
■ ■ ■

أوقفني في الجنة وقال:
— جنتي.
فرأيت سكينة زرقاء وراحة مرتاحة من تكاليف اللغة والخطاب، فأخذت غمامة لروحي متكأً وصرت أطفو على لجة فراغ ذهني الفسيح، فنظر إلي وقال: —ما لك؟ ألا تريد الحور والغلمان والشراب الذي لا تصد عنه ولا تنزف؟
فقلت:
— حبي إياك ما شابه حبي لقضيبي!
فقال:
— ولكنه الوعد والثواب.
فقلت: إنها اللغة، ولكل ما وعى وأنا يكفيني من الجنة معنى الستر ومعنى العزلة ومعنى الفراغ.
— الفراغ مم؟ سألني.
فقلت:
— الفراغ من الحاضر والمستقبل.
— وماذا عن الماضي؟ استفهمني.
فقلت:
— لا قِبَلَ لك بتركي!
■ ■ ■

حين تنظر إلى الطبيعة حولك وتجد القليل من الندوب والآثار فيها، فلتعلم نظرتئذ أن امرِئً حاذقاً قد مر حيث تنظر.
■ ■ ■

أوقفني قدام إنَّانا وكانت في غبطة تأملها في الفرج الرابي والمتحيز بين الفخذين كواحدة من جنائن شميرام المعلقة، وقال:
— هاك.
فقلت: — بلى وحياتك عندي.
فقال: — وأين ما عَلَّمْتُكَهُ، إذن، حتى صرت مُرّاً كنبي وأخلاقياً كالقط؟
فقلت: — في هذا شيء لا يشبهك.
فقال: — حاشا لي.
فقلت: — بلى، فأنا عبد وأنت المولى ولسنا هناك، أما هذي فهي من كل سبيل تأتيها عمود العشق ومن طاف بها دخل إلى لاهوت الفرج وناسوت القلب ليخرج إلى ملكوت الروح دون مرور بأحد أو بشيء آخر.
فقال: — ألهذا جعلتم ملائكتي إناثاً؟
فقلت: — أوَ خشيت عليها نكاح المتعة؟ قد كان ذلك لإضفاء الخلق على المخلوق ولتفريغ الدفء فيه، فيصير الروح مادته وتصير الأوهام هيولاه فيرجع إلى طفولة ما قد كنا نصبو إليه ويستوي شيئاً يقرب من إنَّانا، شيئاً يستحليه العشق، شيئاً يستملحه العاشق، شيئاً لا قِبَلَ للمعشوق بتركه.
قال: — حسبك. مكانك حيث أنت.
■ ■ ■

إلى كل ضياع الجنوب اللبناني وأهلها: — أتعرف من هي؟ سألني وهو يشير إلى امرأة حلوة ولها منديل أبيض يحيط بملاحة وجهها فيزيدها فسحة وسماحة.
— أتعرفها؟
فقلت: — امرأة من ضياعنا.
فقال: — إنها مريم العذراء!
فقلت: — نساء ضياعنا وقرانا عذاری؟
فقال: — ويحك إنها أم يسوع.
فقلت: — نساء قرانا أمهات عذاری ويبكين تحت الصليب؟
فقال: — ما بك الآن؟ أقول لك يسوع.
فقلت:
— لقد سمعتك ولكن مَن يسوع إن لم يكن واحداً من هذه القرى المنسية في هاجرة الظلم؟
— ولكن أين أتباع من ذكرت وأین تعاليمهم و..
— امض معي، قاطعتُه وأَخذه ظني من يده إلى هضبة ومن هناك أشرت إلى واد صخري استحال في موضع منه جلولاً كلها عريش
وقلت:
— هذا إنجيل عمي أسعد، وأشرت إلى حقل قمح مثل الذهب مثل امرأة تشتهي عارية على سريرها
وقلت:
— أما هذا فقرآن عمي عبد الله. وأشرت إلى دبابة محترقة
وقلت:
— وأما هذه فسورة من سور أختي يسار وأما ذاك، وأشرت إلى جامع عتيق البنية، أما ذاك فسِفر من أسفار المحبة كتبته الضيعة وكانت تحسب أنك ستقرأ.
■ ■ ■

قال لي:
— الحزن جنتي وبستاني.
وقال لي:
— والثمرة لا تقربها.
فقلت له:
— ارفق بي فأنا حلم عار.
فقال: — غط عريك بكلامي.
ففعلت واستبد بي إثم كشوك يمتد ويطول.
■ ■ ■

أوقفني في الجسد فقلت له:
— عبارة أحفظها عن فتاك الأسيزي تقول: أيها الجسد أيها الأخ الحمار!
فقال:
— ولكن الأسيزي خاطب حماراً بالفعل.
فقلت له:
— بلى، صحيح ما تقول، وصحيح أن الجسد حمار بالفعل وبالضرورة أيها الأخ العزيز!
■ ■ ■

أعطاني حياة فقلت:
— العمر صفحة!
— وأنت خطُّك، أجابني.
■ ■ ■

النور قديم
والريح قديم
وهواي قديم
الموت وحده الجديد فكيف أناديك؟
■ ■ ■

قال لي:
— رِ! المستقبل خلفك والنور أمامك وأنا أخاطبك!
فنظرت وقلت:
— هو ذا أنا أرى فماذا تريد؟
فقال:
— الموت مسطرة الأنبياء وبها تقاس قامات الخلق وأحلامهم، وأضاف:
— وكما أن النبع جذر الماء وقد نبأ، فإن الموت جذر الحياة وقد تَنَبَّى.
■ ■ ■

أوقفني في الجماع فاستحييت فسألني فأحلته على الدين، فقال:
— فقهاء دينكم مِعْمَارِيُّو جهنم.
وقال:
— أَقْبِلْ، فأحجمتُ فسألني علَّة إحجامي
فقلت:
— أيامٌ خواءٌ هذه، تتشابه فيها الأمور وتلتبس.
فسألني:
— وكيف ذلك؟
فقلت:
— الجماع وكتابة الشعر في هذه الأيام اللطيمة يتشابهان في كثرة الحروف التي لا تفضي إلى معنى.
فسألني:
— وما حاجتك إلى المعنى في لحظات الأنس؟
فأجبته:
— حاجتي إليك في هنيهات الوحشة والعزلة.
■ ■ ■

سألني:
— ماذا تفعل؟
فقلت:
— أحلم أني أحلم، وفي الحلم أجدك نائماً تحلم، فأوقظك وأقص عليك حلمي، فتنظر إلي بمقلة أنهكها النعاس، وتجمجم:
— حتى أنت يا يوسف.
وتعود إلى حلمك، لأستيقظ أنا على حلم آخر.
■ ■ ■

— شَبِّهْني، قال.
فقلت:
— ضوعٌ في قَرٍّ!
فقال:
— نزهني.
فقلت:
— قَرٌّ فقط!
■ ■ ■

— ما اسمك؟ سألني
— أَوَنَسِيْتَهُ؟، سألته
وأضفت:
— فبأي اسم كنت تناديني يوم لم أكن اسماً ولا وجهاً ولا روحاً بل حلماً مكنوناً في كتاب مکنون؟
فقال:
— لقد نسيت!
فقلت:
— اسمي نسيان.
فقال:
— فلیكن نیسان برّاً منّا بأمك!
هنأني الشيطان:
— بخ بخ إنه الاسم الأعظم، قال.
■ ■ ■

— لماذا خلقت الموت؟
— غلافاً لروحك! فالحياة أرضة!
■ ■ ■

قال وأشار إلى القرآن:
—كتابي!
فقلت:
— بلى، وأحبه.
فسألني أكثر، فقلت:
— الحمد ويوسف والضحى.
فسألني أكثر، فقلت:
— الرحمن.
فسألني أكثر، فقلت:
— أن أضع يدي في جيبي وأسير في شارع مدينة مزدحمة بالأحلام والهواجس والأصوات والرغبات والكوابيس والمطر والغبار، وأنا أُصَفِّرُ غير عابئ بشيء ولا بأحد، فهذه أكمل وأجمل آياتك في كتابك.
■ ■ ■

سألته عن الصدفة فقال:
— سري.
فسألته عن سره فقال:
—أن تعلم.
فسألته عن العلم فقال:
— ما لم أقله.
فسألته عن كتمانه فأفرغ كوباً شفافاً وقال:
— اشرب!
■ ■ ■

ليل مزقه بغتة برق خاطف
في لحظة رأيت
قصبة ستصير ناياً
تنحني على نهر
وسمعت بعوضة تئن.

2. قداس جنائزي
لرشا محمود الحاج

فارت القهوة على النار
وبقي الفنجان فارغاً على الطاولة
فارغاً مثل قبر ينتظر
فارغاً مثل قلب وقف أمام بوابة السماء الثقيلة
فارغاً مثل كل شيء
بعدما لحقت رشا بأحمد حبّ العمر
وواصل ويسار
فارغاً كالمستقبل في عينيّ
فارغاً ممتلئاً فراغاً
■ ■ ■

فجأة تعبرين الخط ويتحول الأنس إلى حنين
وتضيع مني فرصتي الوحيدة كي أعود طفلاً لا يكبر
يضيع مني الزمان الذي نقّبت عنه في كل أنثى
وأبقى خلفك أكرره حزناً شجياً نقياً لاذعاً كالكحول
لأشرب نخب العبث، كأس اللاجدوى، جرعة المهزلة
وأسكر سكرة العارف بما يحسب أنه موضوع معرفة
وأصرخ:
— كأسك أيها الجهل
هو ذا أنا جسد تحتله وروح تستعمرها
■ ■ ■

اااااخ يِّمي
ما ترین لیست حروفاً عربية بل آيات حزن نقشتها الفاجعة
على رخام الروح
إنه ابنك وقد أحال الفقد حرفه/ روحه إلى قديد
يِّمي
ثرثرة الحزين وركض المحب خلف القطار وقد أخذ الحبيب
كلاهما نثار مرآة تحطمت
آآآخ يِّمي
أنا في المحطة الآن

3. نوادر الملا نصر الدين الصغرى
قال ابن أحمد الكتبي:
— كنت جالساً في زاوية الحجرة التي فارقت الملا نصر الدين الروح فيها، حين التفت إلي فَرَاعَهُ وجوم ويأس قاتل يكسو سحنتي وأنا أشد طواميري بخيط، فسألني بصوت واهن تعمّد أن يكون مرحاً بالقدر المتاح:
— ما بك يا ابن حمد؟
— الوحدة خلف الباب وبصحبتها درب موحشة فلا إخبار ولا أخبار ولا أحاديث ولا من أحدث عنه.
وسالت دمعات ساخنة وخطت لحيتي، فتبسم الملا مشفقاً وربت على فخذه من فوق اللحاف وكأنه يمسد رأسي وقال لي مواسياً ومؤملاً:
— هوّن عليك يا ابن أحمد، فما انقطع وحي ما نافقتم وظلمتم!
■ ■ ■

في نزعه الأخير، وكان الملا مستلقياً على ظهره، في فراشه، شاخص البصر نحو السقف، والكل حوله خشع وقوف دون أن تخفى سمات الفضول على سحناتهم، وفجأة التفت الملا صوب الباب وحاول أن ينهض قليلاً ثم ابتسم ابتسامة جميلة للغاية.
فسأله أحد الواقفين حوله:
— ماذا يا ملا؟
— الجنينة بعيدة ورأيت عزرائيل مقبلاً عليَّ، فأحببت أن أَمْحُضَهُ وُدِّي وردةً، وقد فعلت، إنها في فؤاده الآن.
■ ■ ■

— ميت أنا، قال الملا، وأمشي، فتبدو آثار خطواتي على رمال شاطئ العالم الآخر، أما وقعها فيحسبه الخُلَّصُ خفقَ أجنحة.
■ ■ ■

وجد أحدهم الملا نصر الدين عند ضفة النهر جالساً القرفصاء، وهو ينظر في الماء الجاري أمامه، وكأن عقله جرى مع الماء فلم ينتبه إلى الرجل الواقف خلفه وظله يشي به، حتى هدّه من كتفه، فالتفت الملا متطلعاً إلى فوق كأنه يفيق من سبات، فسأله الرجل:
— ما بك يا ملا؟
— طفل أعرفه كان هنا، يلعب، يسبح، يجري مع الماء كورقة حور ويضحك مثل قصب النهر. جئت ولم أجده مع أنه هنا في صدري ما زال يضحك ويجري ويقفز مثل فرس البحر.
■ ■ ■

سئل نصر الدين مرة وكان قد نزل لتوه من عن المئذنة:
— كيف يراك الله يا نصر الدين؟
— كما أراه، أجاب.
— وكيف تراه عز وجل، أيها الملا؟ ألحوا بقليل من التبرم.
— وسعي لا مرادي.
■ ■ ■

— ما يقول مولانا الفقيه الإمام في الخمر؟ سأل رجلٌ إمام مسجد كابل، وكان جالساً في حلقة الدرس وحوله طلبة العلم يدونون ما يتلفظ به، وكان الملا جالساً غير بعيد من الحلقة، فتنحنح الشيخ الإمام ومسّد لحيته وأجاب بصوت امتدت فيه الألفاظ امتداداً يوحي بالجزم:
— كل مسكر حرام!
— فماذا نفعل بمن أسكره حب الله أو ثمل وهو ينظر إلى بديع صنع الله وقد تجلى زهراً أو نهراً أو سماء أو كواكب أو أطفالاً أو عشاقاً أو غابات أو صحاری؟ سأل الملا وكأنه يسأل نفسه.
حوقل الشيخ واستعاذ بالشيطان ثم سأل الملا متحدياً:
— فماذا تقول أنت يا ملا؟
— أقول كل مسكر يصرفك عن الجمال حرام قطعاً، وكل مسكر لا يكون هو الجمال بذاته فليس مسكراً ولن يكون!

4. وصف ماريا
تحلم بالخلافة.
إنه النعش سكراناً بجسد سكران، فابكین یا نساء القرى ويا شباب الحارات ويا أطفال الأزقة اندبوا وليفتل الجد شاربيه صبراً، فالجسد مقبل على مدينة لا تريد فيها الملائكة الأبد بل الآن واللحظة، والجسد لا يريد لا الأبد ولا الآن ولا اللحظة ولا يريد شيئاً. إنه يريد ماريا

ها أنا ذا قد وصفت ماريا
ها أنا ذا أصف ماريا
ماريا
■ ■ ■

بلی بكيت حين رأيت ماريا. ليس لأن البكاء سلم يفضي إلى غايتين وليس لأن..

لأن ماريا
سأصف ماريا..
سأصف قلبي العاري كحبة دواء في راحة عجوز ترتجف
سأصف ماريا
■ ■ ■

رأى عبد الرحمن الداخل نخلة فبكى. رأيت ماريا وبكيت. ليس لأن ماريا طويلة كالنخلة، وليس لأن قلبي كان بين مقلتيها الساهرتين كبيتين إغريقيين على شاطئ الأبيض المتوسط، غريباً كأموي في الأندلس، وليس لأنني بدوي يؤثر البكاء بين يدي الأطلال والأطفال والنخيل ويتواضع بين أفخاذ النساء مثل فلاح في مستشفى حكومي حيث تُعالَج زوجته من فالج أصابها وأَجَاعه، وليس لأنني تذكرت كيف طلع عليَّ جسد ماريا على سريرها کشهيد يدخل الجنة..
■ ■ ■

ابتسمت شيعانة، وقد أنفلش شعرها على صدري العاري، وكانت إذنها فوق قلبي، وطرف شفتيها يحدد المسافة بين السرَّة والأسرار الأخرى. وضعتُ راحتي على رأسها فالتفتت، وأذنها فوق قلبي الخافق بسرعة وقالت:
— ما ألذَّ وقع خطى الملائكة وهم يغادرون!
فقلت:
— بل هم يفسحون ليتحلقوا حول المشهد.
وتحرَّكَت قليلاً، فانهمر سيل من شعرها على وجهي، ولم تزحه يداها، فلقد كانتا مشغولتين كثيراً، مثل قلبها، وكان يحاول الدنو من قلبي أكثر.
■ ■ ■

معشوقتي الحلوة في الخلوة؛ قلب كالخان، وهن بلا ذاكرة. إنها كالجنة، لا تعرف الأثرة، وكالجحيم لا تنافق حين تستعِرُّ. وكمثل الله، يضرب جسدها الأمثال، فتعود الشهوة على صاحبها بحكمة مطلقة ورحمة سابغة.
■ ■ ■

جسدها في الليل، حكمة ساطعة في العتمة. والليل يموج قبلة إثر قبلة إثر قبلة، وأنا في بستان من نبيذ؛ أتهجأ شفتيها حرفاً حرفاً، فأجدهما حرفاً شمسياً والأخرى قمرياً حتى يستدير الكون على لساني لفظاً؛ أضع إصبعي عليه برفق من يختلس لؤلؤة فيبدو، وإصبعي هناك، مثل هاون، عند عطار محترف.

5. وردةُ الصُّوفي
(تُنشر للمرة الأولى)

ليل
هذا الليل
وجهك كان أم صوتك أم روحك أم دمك
إنجيلي الذي سأعلنه بين الأمم
وابشّر به
أنا مخلوق بائس بلا أبعاد
أفكاري كالبجع؛ أسراب لا تعرف غير اتجاهين
إنها لا تطير
تراوح بين مكانين
■ ■ ■

ليل
هذا الليل
فجر مختبئ في أفكاره المضمرة
وجهك فكرة رحلت روحي مراراً تبحث عنها بحث الأرملة البوذية عن طبق أرز في بيت لم تزره المنية
لم يُنضِج الموت رغيفه
لم يجْر منشار الفراق في غابة عواطفه
■ ■ ■

ليل
هذا الليل
جسدك مشط أعددته لتسريح أفكاري المتشابكة كعليقة موسى
وابتسامتك التي لم أرها
رب تجلّى على طور أوهامي
فعبد قلبي العجل الذهبي
وترك هارون في خيبته وموسى في غضبه
والنيل يجري بعيداً عن صحراء غير بعيدة
والشمس مثل سليماني ينير الباطل ويكرّره
■ ■ ■

ليل
هذا الليل
وجهك لغة أعرفها، لا أحسنها
سكينة تتعلّم الصمت، ضوء يستنير بأحزانه
طفل على مقعد الدراسة يملأ قلبه ضجر في حصة النحو
وغير بعيد دوري
يصرّف كل أفعال الربيع
■ ■ ■

ليل
هذا الليل
سريرك حيث ترقدين
سريرك سِفر يقص أخبار الزمان الأول واللحظات العذراء
سريرك ملحمة لو كنت بطلها لما رقمتك على طرف السماء
سريرك عمري يجري كما يشاء
واسمي هواني قدراً
وأكرّس هواك مستحيلاً
ويعرج عقلي وتترنّح الموجودات
سريرك حيث ترقدين وقد انتشر شعرك حتى بدت المخدّة كلوح مسماري
أنفاسك الغافية تتهجّى حروفه وتعاند الزمان
شفتاك نصفهما للمخدة والنصف الآخر لخيالي
ما أنت نائمة الآن
أنت هندي أحمر ترقص روحه لحرب قادمة
وتلوّن الظلال
■ ■ ■

ليل
هذا الليل
أحبّك. أنا احبك. الأنا يحبّك
ولكن كيف؟
آثار أقدام صغيرة على ثلج خفيف استدركته الطبيعة بثلج وريح عفت على الآثار ولكنها هناك منذ ما بعد غد وحتى أول الزمان
حتى أولى دورات الزمان
فالزمان جسدك
ممتد من آخر يوم وحتى لحظة نظرت الكلمة إلى العتمة وقالت ليكن جسد
فكان نور وكان ذلك حسناً فلقد صار للكلمة معنى
صار المعنى وردة الصوفي
صار المعنى جسدك
يبتذله الدين
ويتقدس بمهانته

* المصادر
• «نوادر الملا نصر الدين الصغرى» ــ دار مختارات، 2005.
• «وصف ماريا» ـــ دار النهضة العربية، 2008.
• «السديم والهشيم» ـــ دار النهار، 2013.
• «قداس جنائزي لرشا محمود الحاج» ـــ دار النهضة العربية، 2013.