سعت الدول والمجتمعات منذ القدم إلى تحقيق مصالحها وتأمين استقلالها واستقرارها وحماية شعوبها وسيادتها، إلا أنّ ذلك لم يحل دون وقوع النزاعات، نظراً إلى طبيعة العلاقات الدولية القائمة على التعاون والتنافس في آنٍ. وكان من الطبيعي أن يأتي في صدارة هذه الخلافات والمنازعات تلك المتعلّقة بسيادة الدولة وسلامة أقاليمها. هذه الصراعات تُعدّ من أعقد وأخطر المنازعات الدولية، منذ نشوء النظام القانوني لهذه الدول، فيما احتلت المناطق البحرية مكانةً استراتيجيةً خاصّةً على صعيد العلاقات الدولية، والجغرافيا السياسية، لما تكتنزه من ثرواتٍ نفطيةٍ وغازيةٍ. تمثّل هذه المكانة محوراً من محاور النزاع الدوليّ الذي يشهده العالم، سعياً وراء النفوذ والقوة والسيطرة على الموارد الاقتصاديّة لا سيّما النفطيّة. هذا ما يبدأ به الباحث علي إبراهيم مطر كتابه «حل النزاعات وقواعد السلم والحرب – نماذج إقليمية ودولية» الصادر حديثاً عن «دار المعارف الحكمية».

أرمان ــ «طلقات» (1962)

إنّ هذه الصراعات التي لا تفتأ تحصل بين الفاعلين الدوليين منذ القدم حتى عصرنا الراهن، وهي وفق ما يرى الكاتب تتناقض مع مبدأ حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن نصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة، سيّما أنّ هذا المبدأ يتأثر بطبيعة النظام الدوليّ وميزان القوى وتبدّلاتها. لقد أرسيت قواعد هذا المبدأ في القانون الدولي ببطء عبر التاريخ، ولم يتم احترامها من دول كثيرة، حتى بعد تثبيتها في الميثاق الأممي. حاول المجتمع الدولي وفقهاء القانون الدولي ومنظرو العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وضع قيود على هذا المبدأ، إلى أن تمّ منع استخدام القوة كلياً في العلاقات الدولية من قبل الأمم المتحدة، لكن مع الأخذ في الاعتبار استثناءات يتمثل أهمها في حق الدفاع عن النفس.
تتعدد أسباب اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية وفق ما يوضح مطر، فغالباً ما يتم اللجوء إليها لحماية سيادة الدولة وأمنها ضدّ الأخطار الخارجية التي تهدّدها، كما قد تتخذها الدولة وسيلةً لفرض وجهة نظرها على غيرها من الدول، وعادةً ما كانت تُستخدم القوة وسيلةً لتسوية المنازعات الدولية، وتارةً أخرى لترسيم حدود الدولة والحصول على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من اليابسة والمياه. ويرجع التزايد في استخدام القوة في العلاقات الدولية، إلى طبيعة النظام الدولي والفاعلين فيه، خاصة النظام الأحادي، الذي ساد ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط الثنائية القطبية، حيث تتركز الهيمنة والاستئثار بالقوة لمعاقبة وردع الرافضين لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم.
يعتبر مطر أن هذه الهيمنة التي تحدث في ظلّ التطور التكنولوجي من ناحية، والبحث عن البدائل الاقتصادية واستثمار الثروات من ناحيةٍ أخرى، تضع فرضيات كثيرة لوقوع الحروب وتطور النزاعات الدولية المتعلقة بالحدود، ما يجعل فرضية نشوب الحرب قائمة باستمرار، وبالتالي نكون أمام خرق لمبدأ منع استخدام القوة في العلاقات الدولية، والذي يقابله استثناء شرعي هو حق الدفاع عن النفس في مواجهة العدوان.
مع ذلك، تبقى الوسائل السلمية في أحيانٍ كثيرة ممكنة، وتشكّل باباً واسعاً لمنع نشوب الحروب أو تأجيلها. إنّ هذه الوسائل السلمية لحل النزاعات الدولية يمكن أن تكون فعّالة، في حال تم تطوير عمل الأمم المتحدة، لتعلب دوراً فاعلاً يعطيها دورها الحقيقي، في حال تخلّصها من الهيمنة على قراراتها، وهو ما يجنب العلاقات الدولية الكثير من الأزمات ويحافظ على ما يقرّه القانون الدولي.
الكاتب الذي ينطلق مما وصلت إليه العلاقات الدولية ليصل إلى التفصيل في مبادئ السلم والحرب وقواعد حلها، يرى إنّ العلاقات الدولية اليوم تمرّ في مرحلة تحوّلٍ خطر، يمكن أن نكون معها أمام حقبة جديدة تطوي صفحة هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدوليّ، والتحوّل بشكلٍ جديّ إلى نظام متعدد الأقطاب، أو إلى نظام مشكّلٍ من دولٍ متكتلةٍ لمواجهة بعضها. لذلك فإن هذه المرحلة يمكن أن تشهد الكثير من التغيرات أيضاً على مستوى المنظمات الدولية، ما يجعلنا أمام دعوةٍ متجددةٍ لضرورة الإصلاح الشامل لمنظمة الأمم المتحدة، لتصبح أكثر ديناميكية في التعامل مع هذا التطوّر والتحوّل المنتظر، فلا يمكن أن يبقى التنظيم الدولي كما هو عليه منذ عام 1946.
ولكي يشرح مطر هذه الوسائل للقارئ مهما كانت مشاربه، يقدم مجموعة من القضايا المتداخلة بين القانون الدولي والعلاقات الدولية، تتمحور إشكالياتها حول كيفية ترسيم الحدود وتحوّلها إلى سببٍ للنزاعات الدولية والطرائق المستخدمة في تسويتها، بالإضافة إلى قواعد الحرب والسلم والدفاع عن النفس بين القانون الدولي والإسلام، فضلاً عن ضرورة إصلاح منظمة الأمم المتحدة كي تواكب تراكم هذه النزاعات وتطورها. وبالتالي، يحاول من خلال كتابه الإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلّقة بتسوية النزاعات، ومن ثم يبدأ بتفصيل هذه القضايا، فهو عند طرح كل وسيلة لحل النزاع، يقدم حولها قضية تمت معالجتها من خلال هذه الوسائل سواء الديبلوماسية أو القضائية. صحيح أنّ هذا الكتاب أقرب إلى أصحاب الاختصاص الباحثين في العلاقات الدولية والقانون الدولي، إلا أنه حاول أيضاً أن يقدم للقارئ شرحاً وافياً عن المفاهيم والمصطلحات والقضايا التي بات يسمعها باستمرار.
قسّم مطر كتابه إلى سبعة فصول، تطرّق فصله الأول إلى إخفاق عصبة الأمم في حفظ السلم والأمن الدوليين، ما كان سبباً رئيسياً في إعادة التفكير في تشكيل منظمةٍ دولية ٍجديدةٍ؛ تضمن تحقيق الأهداف، التي كانت مطلوبة من قبل عصبة الأمم وتكون قادرة على حفظ الأمن الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. ثم تناول تطوّر مفهوم الأمن ونظرياته في التّنظيم الدوليّ. بعد ذلك، بدأ مطر في الحديث عن قواعد الحرب في القانون الدولي، فأشار إلى أنّ القادة السياسيّين والعسكريّين في الدولة الحديثة، يعتبرون أنّ الحرب هي وسيلة أساسية لتنفيذ سياساتهم. وفي كتابه الأشهر «عن الحرب»، يقول الجنرال والمفكر العسكري كارل فون كلاوزفيتز: «إنّ الحرب ليست سوى استمرارٍ للسياسة، ولكن بوسائل أخرى». لكن القانون الدولي، قيّد اللجوء إلى الحرب لحل النزاعات الدولية، بعد إنشاء عصبة الأمم. إلا أنّ هذا التقييد فشل بسبب الحرب العالمية الثانية، وقد وجد المنظرون في القانون الدولي ضرورةً ملحة لوضع قواعد تحظر استخدام القوة وتنظم قواعد الحرب، ومن ثم بدأ بالحديث عن الحرب وقواعدها في القانون الدولي، من خلال توضيح مفهومها في القانون الدولي، ومن ثم الحديث عن قواعد الحرب في القانون الدولي الإنساني.
في الفصل الثاني، تحدث مطر عن وسائل تحديد حدود إقليم الدولة، ومن ثم أفرد مساحةً للوقوف عند إقليم الدولة وترسيم حدودها وتقنياتها، وطرق تحديد البحر الإقليمي وتقنياتها، ومن ثم الوضع القانوني للجزيرة والمنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري، وهنا كان هذا الفصل أساسياً في الحديث عن تحديد الحدود المائية للبنان، والنزاع مع كيان العدو.
في الفصلين الثالث والرابع، تحدث الباحث عن الطرق الديبلوماسية والقضائية لحل النزاعات الدولية، فيما أفرد الفصل الخامس للحديث عن السلم والحرب في الإسلام، وحق الدفاع الشرعي عن النفس، وبالتالي حق المقاومة في الدفاع عن لبنان وثرواته. إذ رأى أن العلاقات بين الجماعات عبر التاريخ قامت على الصراع في أغلب الأوقات، فيما قامت على السلم في أحيانٍ أقل، وقد كانت بعض الجماعات إذا شعرت أنّها قوية انقضّت على الأخرى لكي تتوسّع وتكبر وتحصل على الثروات. حينها لم يكن هناك رادعٌ ولا طرائق أخلاقية محددة للتعامل مع هذه الأحداث، فكان كل شيء قائماً على القوة. ويؤكد هنا أنّ القول إنّ الأمم المتّحدة هي الشكل الأنسب اليوم لحفظ السلم والأمن الدولي؛ هو قولٌ يجافي الحقيقة، لأنّ التنظيم الدوليّ فشل في حفظ السلم والأمن الدوليّين، وقد وقعت الحرب العالمية الأولى وفشلت بعدها عصبة الأمم، ومن ثمّ وقعت الحرب العالمية الثانية، ولم تستطع الأمّم المتّحدة إلى اليوم منع وقوع النزاعات بين الدول. ورأى أنّه في المقابل، وضع الإسلام قواعد وتشريعات للتعامل بين الناس والجماعات والدول، ورفض إرهاب الناس لأنه «دين السلم والسلام، إلا أنه شرع حق الدفاع عن النفس».
حقبة جديدة تطوي صفحة هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدوليّ


فالقواعد الإسلامية ـــ بحسب الكاتب ـــ تقضي بمحاولة الحلّ الأقلّ كلفة، وهو الحلّ بطرقٍ سلميّةٍ. وإذا لم يُفضِ إلى نتيجةٍ، كان يمكن استخدام القوّة، لكن بعد استنفاد كلّ السّبل السّلمية. ولم يؤكّد الإسلام على الحرب والقتال إلا عند الحاجة، كما أنّه يرفض الإرهاب والعنف وإيذاء الآخر. وقد قدم الباحث استدلالات وبراهين عدة على حق الدفاع الشرعي عن النفس، ليؤكد بعد ذلك أنه يحقّ للجماعات أو للأفراد، الكفاح المسلح من أجل التحرير وحق تحرير المصير والدفاع عن النفس.
إن الكاتب في حين يذكر قواعد وشروط حق الدفاع عن النفس، يتحدث أيضاً عن خصوصية حق الدفاع البحري عن النفس ليبين أحقية المقاومة في الدفاع عن لبنان وثرواته وحدوده المائية بشكل علمي وموضوعي، «فالولايات المتحدة الأميركية والكيان الإسرائيليّ يسعيان اليوم، إلى إشاعة المفاهيم التي تنتقص من حقّ المقاومة في سياق السياسة الدولية والتعامل الدوليّ، من أجل نسف هذا الحق والحفاظ على أمن الكيان الإسرائيلي».
أما الفصل السابع والأخير، فقد اختار الكاتب تسميته بما يشبه الفصل السابع للأمم المتحدة، إذ حمل عنوان «إصلاح الأمم المتحدة» ليبيّن دور الأمم المتّحدة حالياً، ومدى ملاءمة المنظّمة الدولية مع التطوّرات الحاصلة والمتغيّرات الدوليّة الراهنة، ومن ثم يُجب عن سؤالٍ يُطرح دائماً عند الحديث عن هذا الإصلاح: ما هي البدائل الممكنة والعقبات التي تحول دون إصلاح الأمم المتحدة؟ فهو يعتبر أنّ فشل الأمم المتحدة في حفظ الأمن والسلم والدوليين، كنموذج لبنان وسوريا والعراق واليمن، وكذلك الحرب في أوكرانيا وفشلها في معالجة الكثير من الملفات يجعله، يعني ضرورة إصلاح الأمم المتحدة، تيمّناً بالفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية.
كتاب «حل النزاعات وقواعد السلم والحرب» يجيب عن الكثير من الأسئلة التي نطرحها يومياً ونريد إجابات عنها من الباحثين في القانون الدولي، خصوصاً أن هذه الأسئلة باتت تمس حياتنا اليومية، نتيجة وجود الكثير من النزاعات والصراعات الدولية والإقليمية التي باتت تهدد الاستقرار العالمي، وأصبحنا بحاجة إلى مراجعة الوسائل التي يمكن أن تخلّص العالم من هذه الصراعات، لا سيما في ظل الهيمنة الأميركية التي تعتبر سبباً أساسياً لنشوء النزاعات والصراعات وفق الباحث.

* يوقّع علي إبراهيم مطر كتابه «حلّ النزاعات وقواعد السلم والحرب» بدءاً من السادسة من عصر اليوم في جناح «دار المعارف الحكمية» ضمن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»