عند حوالي الساعة الحادية عشرة مساءً من ليل أوّل من أمس، اجتاح مزاج الحزن والرثاء جمهور الروك آند رول على إثر إعلان خبر وفاة كاتبة الأغاني والمغنية وعازفة البيانو وأحد أهم أعضاء فرقة «فليتوود ماك»، كريستين مكفي (1943 ــ 2022/ الصورة)، عن عمر ناهز 79 عاماً، بعد إصابتها بمرض غير معلن. جاء دويّ الخبر قاسياً وصادماً، في بيان مقتضب وسريع، أصدره مدير حسابها على إنستغرام: «نيابةً عن عائلة مكفي، نبلغكم بقلب مفجوع، برحيل كريستين مكفي. ماتت بهدوء وسلام صباح اليوم الأربعاء 30 نوفمبر محاطة بعائلتها في المستشفى، عقب مرض أصابها وقد كانت مدة إصابتها به قصيرة. نتمنى عليكم في هذه الأوقات العصيبة احترام خصوصية العائلة، كما نطلب من محبي كريستين أن يتذكروها كإنسانة رائعة، وموسيقية كانت محبوبة في العالم بأسره. فلترقد كريستين مكفاي بسلام». عقب انتشار الخبر، سرعان ما أصدرت فرقة «فليتوود ماك»، بياناً نعت فيه الفنانة الراحلة، لتلحقه بيانات متفرقة جاءت من أعضاء الفرقة كل على حدة، مستذكرين كريستين، حزينين على انطفائها، وممتعضين من إجراءات اتُّخذت مسبقاً من جهات لم يُشر إليها، كانت الغاية منها عزل حالة مكفي وتورية أخبارها. أمر يمكن استشفافه في كلمات زميلتها ستيفي نيكس: «أخبروني منذ قليل، عن وفاة صديقتي الحميمة، صديقتي المقربة منذ اليوم الأوّل من عام 1975. لم أكن أعلم أنها مريضة حتى يوم السبت الماضي. أردت أن أكون في لندن، أردت الذهاب الى لندن، لكنهم طلبوا منا الانتظار».وُلدت مكفي عام 1943 في بريطانيا. كانت تبلغ 4 سنوات عندما بدأت تتعلم على البيانو، لكن مرحلتها مع الكلاسيكية لم تدم طويلاً حيث قاطعتها في أوائل مراهقتها. في الـ 15 من عمرها حسمت أمرها، اتجهت نحو الروك وباتت تعزف هذا اللون الموسيقي مع فرق محلية. لقبُها الذي اتخذته باكراً Christine Perfect سيكون عنوان ألبومها الأوّل الذي اشتهر بنسختها الخاصة لأغنية إيتا جيمس I’d rather go blind، بالإضافة إلى احتوائه على أغنيات أخرى تنتمي إلى فترتها الموسيقية مع فرقتها الأولى Chicken Shack. نتحدّث عن أواخر الستينيات، الفترة التي لم يكن فيها الروك آند رول صافياً تماماً من آثار البلوز وتموّجاته، وحيث كانت أغلبية الفرق الموسيقية الناشئة في حالة من التشتت والتضعضُع والتغيّر. فرقتها هذه ستكون المفتاح للدخول إلى عالم «فليتوود ماك». سيطلب منها بيتر غرين أن تكون مساعدة للفرقة، كعازفة بيانو، لإنجاز الألبوم الذي يسجلونه. نجاح تعاونها مع غرين، سيعزز من حماستها. ستنقل شغفها الموسيقي إلى مرحلة متقدمة، وستصبح الموسيقى هويتها. سيقودها هذا إلى إنتاج ألبومها الأوّل، ثم ستتعرّف إلى زوجها (الأوّل)، لاعب الباص في «فليتوود ماك» جون مكفاي. ستنضم إليه، وستنضم إلى الفرقة، والباقي من التاريخ.
عايشت كريستين مكفي مغامرة «فليتوود ماك» بأكملها. أمام المسرح، في الاستديو ووراء الكواليس. كانت شاهدة على جميع القصص وكانت إحدى بطلاتها. من البدايات، الفترة التي امتازت بجنون بيتر غرين ولمسات جيريمي سينسر، إلى الجيل الثاني الذي يمكن اعتباره المرحلة الذهبية لـ «فليتوود ماك»، المتمثل بعازف الغيتار ليندسي باكينغهام والمغنية وكاتبة الأغاني ستيفي نيكس. كانت مكفي حاضرة بثقل وزخم، أو فلنقل كانت أحد الوجوه الصانعة للمشهد. طيلة تلك المراحل، لم تتجرد مكفي من أهواء البلوز وأسلوبيتها الخاصة فيه، حتى في مرحلة الثمانينيات عندما طغت نزعة البوب عند الفرقة، حرصت مكفي على إضافة لمسات «بلوزية» إلى المقطوعات وإعطائها صدى خاصاً. وكريستين مكفي الإنسانة، لم تُجرّد نفسها من الفرقة، لم تنسحب في الأوقات الحرجة بل بقيت على المسار ذاته حتى النهاية، صديقة وفية للجميع، من بينهم جون مكفي الذي كان يوماً من الأيام زوجها.
ومكفي التي دخلت قاعة روك آند رول للمشاهير عام 1998، لم تكن مجرّد عازفة بيانو في إحدى فرق الروك، أو مؤدية لإحدى الأغاني التي تتطلب طبقة صوت منخفضة خافتة الوطء، وتنحو إيقاعياً نحو مزاج البلوز. ليست على هذا القدر من البساطة أو الخفة، ولا ابنة المشهد الموسيقي للقرن الحادي والعشرين. يمكن تحسّس وهج كريستين مكفي غناءً وعزفاً، في الحفلات، في المواقف الحاسمة التي تعرّي العمل وتفضح متانة عناصره. من ثم، فهناك، إنّ المجال أوسع للانغماس في موهبتها الفذّة، كما التماس قدرة هذه الموهبة في ارتجالها، وفي توزيعها وكيفية جعلها للبيانو أداة ليست ثانوية تعمل هامشياً في الوراء، أي رديفة أو إيقاعية، بل حاضرة، تنصهر منسجمة بتناغم مع الغيتار والصوت والدرامز.
وإلى جانب هذا، لعلّ أكثر ما ميّز كريستين مكفي وأذاع شهرتها، هو الأغاني التي كتبتها. توهّج نجم ستيفي نيكس في مرحلة السبعينيات، في الكتابة والغناء والاستعراض، لم يطفئ شرارة كريستين ولم يحدّه، على العكس، أسهم في انكشاف أسلوبها الموسيقي وأدى الى إبراز تفرّدها، فطريقتها المتمايزة شقّت لها طريقها الخاصة، إذ بعد مرور عقود على صدور أغانيها (مثل Tell me lies أو Everywhere أو Songbird)، لا تزال الراديوات تعج بها وتبثّها حتى اليوم. أغنيات طُبعت في وجدان أجيال، وساهمت في إدخال صاحبتها وفرقتها، إلى المكتبة الموسيقية التي وحده التاريخ ينتقي ما يدخل إليها. نصوص مكفي هادئة، متقشّفة كتابياً، الوصف مقتصد، فالمساحة متوفّرة للكلمة اللازمة والكلمة اللازمة تقال، وفكرة الأغنية (وغالباً ما تكون العنوان) فهي الـ«روفران». كتابتها الرقيقة تشبه حنجرتها الناعمة. الصوت دافئ، في أغلب الأوقات، ميلانكولي. تغني مكفاي كأنّها تدمدم، أحياناً كأنّها ترتّل. ولأنّها على ضفاف الروك، فالصخب المؤجج لا يجيء على لسانها، ولا من حنجرتها، إنّما من جملها الموسيقية الطويلة، الحيوية والفائضة. فأغاني مكفي، عموماً، حزينة وخائبة، تتطابق مع ميلها الموسيقي للبلوز. «أنا جيدة بالحزن والشفقة». عندما تريد كريستين مكفي الإفصاح عن كتابتها، تعترف أنّها لا تعاني عند الكتابة. الكتابة بالنسبة إليها، ليست مكابدة. «أكتبها بسرعة، استغرقتني كتابة Songbird حوالي نصف ساعة»». سلاسة الكتابة، تولد أغانيَ سلسلة، وهذا ضرب من ضروب الموهبة.
في الفترة الأخيرة من التسعينيات، قرّرت الانسحاب من العالم الموسيقي واختارت العزلة ملاذاً. هجرت أميركا، مكان إقامتها، وعادت إلى بريطانيا لتكون قريبة من عائلتها بعيدة عن الضوضاء. ابتعادها عن عالم الفن استمر مدّةً ليست بقليلة، قبل أن تقرّر بعد فترة طويلة نسبياً في عام 2014 العودة إلى الموسيقى، وبالتحديد العودة إلى «فليتوود ماك».
في رصيد كريستين مكفي عدد من الألبومات، بعضها شخصي من إنتاجها الخاص، فيما الآخر هو معظم نتاج «فليتوود ماك». كانت في سنوات حياتها الأخيرة منتجة موسيقياً، ويمكن اعتبار تعاونها عام 2017 مع ليندسي باكينغهام في ألبوم جاء عنوانه جمعاً لاسمَيْهما معاً (Lindsey Buckingham Christine Macvie) أبرز أعمالها. وقد كانت تقوم بجولات عدّة وحاضرة بكثرة إعلامياً.
ماتت كريتسين مكفي وخسرت «فليتوود ماك» أحد أعمدتها. موتها سيخلّد اسمها. سيحمّلها كل البريق الذي اتّسمت به أغانيها. ستكون هي الأغنية. ستُسمع مكفي وسيشار إليها بصيغة الماضي. سيقال: «كان صوتها دافئاً»... «كانت كلماتها رقيقة»... «كانت موسيقاها مذهلة»... أما الآن، فلترقد بسلام.