إنها الساحرة المستديرة! لها طقوسها من الشغف والجنون واللمسات التي تحبس الأنفاس، وأبطالها وقديسوها وشياطينها، من الحفاة الذين يخرجون من أكواخ الصفيح، فيسلبون الألباب بمهاراتهم ورقصاتهم وهم يداعبونها بأقدامهم ويغزون العواصم، إلى المنضبطين في أرقى المدارس الكروية ومن يلعبون بأناقة الجرّاح أو صائغ الألماس: عشقتها الشعوب قاطبة وانتشرت تقاليدها وطقوسها في كل أصقاع الأرض، وأحبّها الفنانون والأدباء والشعراء ولو استنكر بعضهم أن تجري مجموعة من البشر خلف كرة صغيرة كما لو مسّهم الجنّ، وأصبغت الشعوب ألقابها المحبّبة على منتخباتها المفضلة، من الماكينات الألمانية إلى الديوك الفرنسيين فمنتخب السامبا البرازيلي أو التانغو الأرجنتيني. صار لاعبوها رموزاً وأبطالاً قبل أن تحولهم العولمة إلى أرقام في بورصة المضاربات ومصدراً للدخل القومي وعلامات تجارية للعولمة، من الجوهرة السوداء بيليه إلى الهولندي الطائر يوهان كرويف، والفرنسي ميشال بلاتيني والشخصية الأكثر إشكالية في تاريخ كرة القدم الحديث، الأرجنتيني دييغو مارادونا الذي قال عنه الكاتب إدواردو غاليانو: «هذا المعبود كان قادراً أن يجترح في خمس دقائق الهدفين الأشد تناقضاً في تاريخ كرة القدم كله، ومحبوه كانوا يوقرونه للهدفين: لم يكن جديراً بالإعجاب هدف الفنان فحسب، الموشّى بشيطنة ساقيه، وإنما كذلك، وربما أكثر، هدف اللص الذي سرقته يده. لم يكن مارادونا معبوداً بسبب بهلوانياته فحسب، وإنما لأنه كان إلهاً قذراً، أشد الآلهة بشرية». استطلعنا في «كلمات» آراء كوكبة من الأدباء في العالم العربي حول المونديال الذي يطل علينا في أول نسخة عربية غداً من الدوحة، وعن العلاقة بين الأدب والكرة في طقوسها ومهرجاناتها وفرحها وحزنها، وما تركت فيهم اللعبة الأكثر شعبية من انطباعات وذكريات

ملصق المونديال عام 1986


◄ على الشعراء أن يحبّوها
هاني نديم (شاعر سوري)

يمكنني التمييز بين فئتين من المثقفين تجاه كرة القدم، فئة تتعالى عن فكرة اللحاق بكرة مطاطية على حد زعمهم، وما تلاها من تكريس نجومٍ لا فكر حقيقياً لهم إلا بأقدامهم، وفئة أخرى يلهمها هذا الفن بوصفه إحدى المفردات الأصيلة اليوم في تكوين الكوكب، مفردة لا يمكن الفرار من مواجهتها يومياً بشكل مباشر أو غير مباشر.
بالنسبة إلي؛ علاقتي بدأت فاترة مع كرة القدم لأنّي أحب ألعاب القوة من ملاكمة وجودو ومصارعة، وهي ميول تجبّ التنبّه إلى كرة القدم بوصفها رياضة لغير القادرين على القتال! إلا أنني اخترقت بعد كتابتي تحقيقاً استقصائياً عن مارادونا في نابولي، بعد زيارة أماكنه التي أصبحت مقدّسة يحجّ إليها المتدينون والملحدون على حدٍّ سواء، يشعلون الشموع ويبكون ويتضرعون باسمه... بدأت أتنبّه إلى مدرجات كرة القدم لا إلى ملاعبها، إلى شعارات الفرق الموسومة على قمصانهم لا إلى تكنيكهم الفني. سحرتني تلك الهوامش البديعة، قصص أغنيات الفرق، تأسيسها، قتالها وحروبها ومنافساتها وثاراتها الخفية في ما بينها وتراكم التاريخ وتجذّره في كل تفصيل من تفاصيل اللعبة. قرأت ما كتبه المثقفون حول الفوتبول وما قدّموه من مقاربات ثقافية وإحالات تاريخية هامة للغاية، وخاصة غاليانو الذي ترك ملاحظات بديعة في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل»، ولكنه ترك ملاحظات سوسيولوجية في غاية العمق عن اللعبة في كتابه الضخم الفخم الذي أرّخ فيه لأميركا الجنوبية «ذاكرة النار». يبدو أن على الشعراء أن يحبوا كرة القدم، ذلك لأنها تتحرك بذات آلية الشعر والكتابة. كما أنك ستجد فيها النثر والتفعيلة والعمود، والشعراء الذئاب إلى جانب شعراء البلاط.

◄ قفزة من أجل مارادونا
محمد خير (روائي وشاعر مصري)

لا أستطيع أن أجزم؛ هل كان المشهد حقيقة رأيتها بعيني؟ أم محض خيال كوّنته من حكايات أبي عن هذا اليوم ـــ والهدف ــــ الأسطوري؟ كانت صالة البيت مظلمة، لا يضيئها إلا الشعاع الباهت من شاشة تلفزيون منتصف الثمانينيات. وكان أبي، بجرمه الضخم، يجلس محاولاً ألا يصدر أي ضجة في ذلك التوقيت المتأخر. كانت المباريات التي تجري في المكسيك مساء، توافق توقيت الفجر في القاهرة. البيت نائم إلا من الأب في سنوات اهتمامه الأخيرة بكرة القدم، بينما الطفل الذي بدأ يعرف الأرق باكراً جداً، يتسلل في ظلام الصالة مشدوهاً بالمشهد غير المعتاد، مشهد الأب في لحظة نادرة لا تدور حول هذه المرة حول «الشغل»، وإنما حول مراقبة هؤلاء اللاعبين الراكضين بجنون خلف الكرة. وهنا يقع الحدث: يحرز مارادونا هدفه الشهير في إنكلترا. ليس هدف «يد الله» الأول، بل الهدف الثاني حين راوغ نصف الفريق الإنكليزي وحارس المرمى وسجّل الانتصار. هنا، قفز الأب، بجسده الهائل، إلى السقف، كأنه قفز إلى السماء، «لمستُ السقف بيدي» ظل الأب يحكي لسنوات، معبراً عن انفعاله بالهدف الذي قهر الإنكليز، الذين كان احتلالهم لا يزال قابعاً في مصر حين وُلد، وحين دخل المدرسة. لم يكن مجرد رجل في منتصف العمر يشاهد مباراة كرة قدم، فقد كان أيضاً الأب اليساري، القومي، المعادي للإمبريالية، وفي القلب منها بريطانيا، المحب ـــ ككل الشرقيين ـــ للكرة اللاتينية الجميلة، وهكذا حين سجّل مارادونا هدفه منتصراً لكل ذلك، جاءت القفزة، الأسطورية كالهدف نفسه، معبّرةً عن روعة اللعبة وفرحة النصر في آن.
هل رأى الطفل أباه حقاً يقفز حتى لمس السقف؟ هل لمس الأب سقف البيت حقّاً؟ على ارتفاع ما يقرب من ثلاثة أمتار؟ لا يستطيع الطفل (ولا حتى عندما صار بالغاً) أن يؤكد ذلك، كان صغيراً آنذاك، ولم يكن يهتم بكرة القدم، ولم يكن يفهم حتى ما هو «كأس العالم» هذا. إنه يتذكر بالتأكيد سهرات أبيه الكروية النادرة في فجر تلك الأيام في صيف 1986، يتذكرها لاختلافها عن روتين حياتهم، ويتذكرها أيضاً كبداية خجولة لاهتمامه بالساحرة المستديرة. بعد أيام قليلة، حين سافرت الأسرة إلى «المصيف»، وأخذت تشاهد المباراة النهائية على تلفزيون مشوّش الصورة بالقرب من الشاطئ، كان الصغير يشجع الأرجنتين بجنون، سعيداً من أجل مارادونا، ولكن أيضاً، من أجل أبيه أكثر.

◄ مسافر فوق سجّادة الملعب
فوزي يمين (شاعر لبناني)

صغيراً كنت أنتظر المونديال لأقرّب التلفزيون في بيتنا إلى حيث أجلس وأرفع رجلَيَّ أضعهما فوقه حتى إذا ما رأتني أمّي وتساءلت عن السبب، أردفتُ مبتسماً بأنّي أحاول التسلّل إلى داخله وبأنّها يوماً ستتفرّج عليّ. وبالفعل حصل هذا، إذ ما إن كبرتُ قليلاً وأخذتني اللعبة إلى حيث لم أتوقّع، انضممتُ في بداية التسعينيات إلى صفوف المنتخب الوطني وشاركنا في تصفيات آسيا لكأس العالم وتمّ نقل مبارياتنا مباشرة على التلفزيون. كنتُ أتخيّل وأنا مسافر أنقل خطاي فوق سجّادة الملعب، أنّ أمّي تشاهدني في البيت منفرجة الأسارير وغمّازتاها آخذتان بالاتّساع تصلّي ليوفّقني الله شخصيّاً ولو خسر المنتخب. كنتُ أحلم، كأيّ لاعب، أن ألعب في المونديال، غير أنّنا حينها خسرنا أمام منتخب كوريا الجنوبيّة وعدتُ أدراجي خائباً إلى حارتنا الترابيّة التي ترعرعتُ فيها لأجد العمران قد بدّد ملامحها بالكامل.

ملصق المونديال عام 1954

وكلّ أربع سنوات، يعود إلينا المونديال كعاشق نسيَ قلبه في مكان موعده الأوّل، فنعود نحن عشّاقه الكثر، لنتواعد حوله، ملتفّين بشغفنا القديم تستعر نيرانه طوال ذاك الشهر. كأنّه كلّما تقدّمنا في العمر، عادت بنا الأيّام إلى سالف عهدها، فلا نجد أنفسنا إلّا وقد أصابتنا من جديد حكّة في جلودنا وسرى مخدِّر في عروقنا، نتوتّر، نخرج عن طورنا، نفقد أعصابنا، نمارس شتّى أنواع التمريك والتزريك، نكيل الشتائم، نفرّغ ضغط النهارات. وربّما، في حالات الحماس القصوى، يبلغ السيل ذروته ويسيّل دماً، فيهدّد وزير الإعلام بتوقيف بثّ المونديال، ولا يجد المحافظ وسيلة للحؤول دون حصول مواجهات عنفيّة إلّا بإصدار قرار يمنع من خلاله رفع أعلام الدول المشاركة في كأس العالم متذرّعاً بقانون نافذ يجرّم رفع علم غير العلم اللبنانيّ. وكم قوبلت خطوته بتهكّم وسخرية من أغلبيّتنا، حتى إنّ أمّي التي لا تفقه شيئاً بكرة القدم تجيبه من المطبخ وهي تحضّر لنا عصيراً نروي به غليلنا ونحن نشاهد المباريات في الصالون، بأنّ العبرة في التنفيذ، وأبي المنبطح تحت سيّارته القديمة أمام البيت محاولاً منع تسرّب الزيت من أحد أسلاكها، يصيح مغتاظاً بأعلى صوته: العلم اللبناني! ادحشْه.

◄ القوي ينبغي ألا يخسر
عامر الطيب (شاعر عراقي)

للأدب علاقة بكل ما حوله من أنشطة بشرية، إذ تجتمع تلك الأنشطة على اختلاف بوصلاتها لتشكل عزاءً بشرياً ومدخلاً للعيش بصيغته اليومية أو بصيغته المثالية كمجد إنساني ماثل أو مجد فردي عابر. لعل التشابه بين النشاطين ـــــ الأدب وكرة القدم ـــــ وإن لم تكن تلك الإشارة مركزية، فإنّها تدلنا إلى تحول الأدب وكرة القدم عبر تاريخهما من نزوع بشري فطري إلى ماراتون منظم ورصيد وطني، إذ يبدو الكاتب واللاعب مسؤولين عن طفولتهما فيحاولان تقديم متعة وإنجاز، وإن كان شخصياً فإنه يخصُّ الجميع. وفي المحصلة النهائية، فإن قدم اللاعب وهو ينفرد بمواجهة المرمى تمثل أقدام هؤلاء الذين يودون الفوز أو اللعب مستعيدين طفولتهم العريقة كما يترقب القراء فوز كاتبٍ بجائزة عالمية. كاتب لا يعرفونه شخصياً لكنهم يظنون أنّه يعبّر عما لا يمكنهم قوله أو يمثلهم بعبارة أدق. ما يجمع الأدب وكرة القدم برأيي هو المتعة، أعني مسؤولية إمتاع الآخر. ضمن السياق نفسه، فإن اللعب الجيد والكتابة الجيدة يغفران لصاحبهما خسارة أي ميدالية أو غيابه عن أي تكريم لافت. شخصياً تعود متابعتي لكرة القدم إلى نهايات كأس العالم بين البرازيل وفرنسا سنة 1998 وقد كنت ولي ثمانية أعوام من العمر، أود فوز البرازيل لا لشيء سوى لأن القوي ينبغي ألا يخسر. أصحاب التاريخ أمام أصحاب الجغرافيا، كانت مباراة تاريخية لم أتابع بعدها مباراةً بالشغف والحماس الطفوليين نفسيهما لأجد نفسي لاحقاً متحمساً لقراءة تقرير عن كرة القدم أكثر مما أنا متحمس لمشاهدة مباراة. لكن النزوع ما زال راسخاً. فقدت الشغف بالطبع لكني لم أفقد حُبّ كرة القدم وحُبّ البرازيل، الفريق الذي أتمنى له أن يحصد كأس العالم حتى لو لم يعبرْ دور الثمانية!

◄ يد الله وذراعه
سليم البيك (شاعر وروائي فلسطيني)

بكيت مع الباكين حين أضاع روبيرتو باجيو ضربة الجزاء في المباراة النهائية لمونديال عام 1994، مانحاً الكأس للبرازيل. كنت «إيطالياً» وقتها، بالكاد أبلغ الثانية عشرة من عمري، لكن قيل لي إنّ الإيطاليين أهدوا الكأس لنا، «مين احنا؟»: «الفلسطينيين». كنت أظن قبلها أن كأس العالم الذهبية المشبَعة بالقبَل، في مكان ما، في مخيم ما في سوريا. بقيت لسنوات على «إيطاليتي» لأن هؤلاء أهدونا الكأس، وبكيت لباجيو.
بعدها عرفت أن لاعباً أسمر وقصيراً وبشعر مذيَّل، همشرياً ولعيناً، ولطيفاً وأزعر، وضاحكاً مضحِكاً، كأي ابن حارة لأي بيت في المخيم، أنّه غشّ على الإنكليز «العرصات» وأدخل هدفاً بيده في مباراة لم أكن واعياً لأحضرها، عام 1986، تخليت تدريجياً عن تراجيديا باجيو واقتربت من كوميديا مارادونا الذي فاتتني سنوات عزّه في الثمانينيات، واهتديت أخيراً إلى «أرجنتينيتي» (مع اطمئنان بين وقت وآخر على إيطاليا) لأنّ مارادونا يشبهنا، لا باجيو ومالديني. بعدها بأعوام قليلة، رأيت وشماً لتشي غيفارا على زند مارادونا، وقبعة كاسترو على رأسه، مع عام 2000، وكانت الانتفاضة الفلسطينية تقتحم العالم. قلت إنّها فعلاً يد الله وذراعه. تخليت عن إيطاليا تماماً مع إقرار بالامتنان للكأس التي أهدونا إياها، وإن لم أعرف متى تحديداً وكيف ولماذا.
تقلّبت الأحوال وزال عنّي أي اهتمام بكرة القدم مع عام 2000. كنت لاعباً ماهراً في طفولتي، في مواقف السيارات في أبو ظبي، وكنت سريعاً، لم يلتقطني رجال الشرطة هناك كلّما أتوا باتصال من أحد المحال التي كسّرت كُرتنا بعضاً من زجاجها. وكنت ماهراً في SEGA، في لعبة «فيفا 94» التي لم أملّ من الفوز فيها. كنت مشروعَ مشجّع كرة قدم أهوَج، كغيري. بعد الألفين نفدت. عام 1998 فرحت حين خسرت البرازيل أمام فرنسا لأني بدأت أكتشف مارادونا. ولأثبت أرجنتينيتي المستجدّة، كان لا بد من تشجيع خصم البرازيل. وفرحت حين فازت البرازيل عام 2002، وقد تكشّفت على «اليسار» في أعوامي الأخيرة، تاريخاً وفنوناً وسياسة، فرحت لأنّ هؤلاء يشبهوننا، وتصالحت مع تشجيع الأرجنتين والبرازيل معاً، لأنّ أسبابي لم تكن يومها رياضية، لم تكن يوماً رياضية، لأني، لحسن حظي، لم أكن يوماً مشجع كرة قدم نموذجياً. كانت أسبابي كلها من خارج هذا العالم الذي يجمع، بأعجوبة، بين الضّجر والضجّة. تطور ذلك كله اليوم ليكون، بعد عقدَين، عدم اكتراث تاماً بالمونديال، وتشجيعاً تلقائياً لأميركا اللاتينية، لأيّ من فرقها، من دون رغبة حتى بمشاهدة المباراة، يكفيني اليوم سماع النتيجة ولو مصادفة، ومن دون السؤال عنها.

◄ أفيون الشعوب المقهورة
عبد الفتاح بن حمّودة (شاعر تونسي)

كنت مولعاً بكرة القدم في الطفولة، لأن اللّعب مع الأقران من أبناء الجيران والأقارب، كان الفرصة الوحيدة لتمضية وقت ممتع. بعد العودة من المدرسة. وعندما أعود إلى تلك السنوات تمرّ تلك اللحظات في مخيّلتي كأنها أحلام ورؤى. عندما صرت شابّاً صرت متابعاً للمقابلات من خلال التلفزيون وشاهدت بعض المباريات لفرق صغرى للتّشجيع وشاهدت مباراة وحيدة داخل الملعب المعشّب عام 1991 مع ابن عمّتي عبد القادر في تونس العاصمة. لم أكن مولعاً بالمقابلات إلاّ من خلال التلفزيون، وخاصّة عشيّة الأحد لأنه يوم راحة يليه أسبوع شاقّ من الدراسة.
أما كأس العالم، فقد تابعتها كثيراً عندما كنت تلميذاً وكنت أحبّ المنتخب الألماني لأنه الوحيد المنضبط في الملعب ويلعب لعباً نظيفاً، ليس فيه اعتداء على المنافسين. لقد مرّ كل شيء وصار من الماضي البعيد، وصرت لا أتابع كأس العالم لأن كرة القدم صارت لعبة مملّة هدفها الإشهار والربح والمال والسباق الجنوني للشركات ووكلاء اللاعبين والبيع والشراء. كرة القدم الآن عبارة عن أفيون للشّعوب المقهورة والمضطهدة. لم تعد كرة القدم تعنيني مطلقاً ويكذب من يقول إن كرة القدم فنّ. إنها أشبه بلعبة الحمير والبغال والحيوانات وهي للاستهلاك وللقطعان البشريّة العمياء والمريضة والمضطهدة. لاعب كرة قدم الآن هو مجرّد دمية وآلة لجمع المال لا مقارنة بالموسيقيّ الذي يهبني الحياة.
كرة القدم هي مهنة القطعان والرّعاع لا غير. ولاعب كرة قدم لا يساوي فاصلة في أسطر شعراء أمثال سعدي يوسف أو وديع سعادة أو صلاح فائق أو سركون بولص... لعن الله الوقت ورأس المال والدعايات والشّركات. كم مرّت ساعات كنت مجبراً فيها على الجلوس في مقاهٍ يتحلّق الناس فيها لمشاهدة مباريات، فأكون خائضاً مع الخائضين. والرأس في مكان آخر: في شوارع مجروحة، في غربة الكائن بين الرّعاع والقطعان التي هي في شكل بشر. إن الكأس الحقيقيّة هي كأس الموت الذي يخطف البشر والأرواح.

◄ إدمان بلا طائل
يوسف الخضر (شاعر وروائي سوري)

سئلتُ في طفولتي «من تشجع؟ برشلونة أم ريال مدريد؟». وُجّه إلي السؤال طفلٌ من بين مجموعة أطفال في شارع الحمرا في بيروت. كانوا يرتدون قمصاناً بعضها أبيض وبعضها بنفسجي غامق. شردت قليلاً، أنا الطفل القروي الحالم القادم من ريف الحسكة الذي زُجّ فجأة في زحمة بيروت والذي سيكون لاحقاً كاتباً بوهيمياً. كرة القدم آخر ما يمكن أن يثير اهتمامه، وقلت بثقة؛ ريال مدريد. في الحقيقة، لم أكن أعلم ما الفرق بين الفريقين. لا شيء سوى معرفتي البدائية أنهم أناس يطاردون كرة صغيرة، فيشاهدهم حشد هائل من البشر. قلت «ريال مدريد» بثقة بريئة، لا لشيء سوى أن وقع الجملة بدا لي أفضل من مفردة برشلونة. في طفولتي المبكرة، لعبت كرة القدم في باحة المدرسة، وأذكر أن الأمر كان في غاية الروعة والمتعة، ما جعلني أعتقد أن مشاهدة المباريات قد تكون كذلك ممتعة، لكنني لم أكن إلى حين تلقيت ذلك السؤال، قد جربت الأمر فعلياً. كان لزاماً عليّ أن أفعل، دفعني الفضول -لاحقاً- لخوض التجربة، فقصدت مقهى يبث مباريات كأس العالم. كان ذلك خلال مونديال 2010. ذهبت إلى هناك كمن يذهب للصلاة للمرة الأولى. أخذت أقلد الجميع كي لا أبدو شاذاً، أراقب بحذر وأتفاعل عند اقتراب الكرة من المرمى. وكنت أجفل عند إحراز أي هدف، بسبب الصرخة الجماعية المفاجئة. لم أستمتع، فنهضت قبل نهاية الشوط الأول، لم أستسغ الأمر كما لو أنني كنت أقرأ كتاباً مملاً يتخطى عدد صفحاته الــ 400. فأغلقت الكتاب، أقصد غادرت المقهى، أدرت ظهري ومشيت حانقاً كأنني قلت، لا متعة بالاكتفاء بمشاهدة المتعة نظرياً، فهي شيء يجب أن لا يحسه غيرنا بالنيابة عنا. وفي طريق العودة إذ تعمقت بالتفكير في الأمر، تبادر إلى ذهني تساؤل عملاق «لماذا بحق الجحيم يسرف البشر كل هذا الوقت والمصاريف على شيء عبثي كهذا في حين أن الحياة مليئة بالمتعة المفيدة كممارسة الرياضة على أرض الواقع أو متابعة الفنون والآداب والعلوم التي من شأنها -عدا كونها ممتعة- تسهم في ارتقاء الحضارة البشرية؟!». أهو الإدمان؟ أجبت نفسي وبدت لي إجابة منطقية، فغالبية الأشياء المسببة للإدمان هي أشياء غالباً ما تكون ذات منفعة ضئيلة على المستوى الشخصي. وهنا اصطدمت بسؤال آخر كاد ينسف نظريتي المتعلقة بالإدمان، «إذا كنا نحن شعوب دول العالم الثالث ندمن مشاهدة مباريات كرة القدم لتعويض نقص فادح في أنفسنا، فما الذي يدفع شعوب الدول المرفهة لارتكاب الفعل ذاته»؟ فخطرت في بالي إجابة أخرى فضفاضة لا يسعني شرحها هنا. لكن يمكن اختصارها بكلمة وبعدة سطور. الكلمة هي «الإدمان» الذي تحدثت عنه قبل قليل، وأما السطور فهي: التكرار، نحن البشر بطبيعتنا نميل إلى الأفعال ذات النمط الروتيني المريح للذهن. الدوري الإنكليزي الممتاز، كأس العرب، كأس أمم أفريقيا، كأس العالم... لكل مصطلح ملف في مخيلة أي متابع لهذه الرياضة، ما إن يسمعه حتى يتبادر إلى ذهنه سيل من المعلومات والذكريات التي تبعث في نفسه شعوراً «أنه على الأقل بارع في شيء ما اعتاده ثم أدمنه». كما ترد الجملة بتصرف في إحدى رسائل فان غوغ. شخصياً منذ أن تلقيت ذلك السؤال في طفولتي وإلى الآن عدا كوني لسبب غير واضح أشجع ريال مدريد، فإنني كذلك مصرّ على أن مشاهدة مباريات كرة القدم كالتدخين، فهي في بداية الأمر فعل بلا مغزى، سرعان ما يتحول إلى إدمان.