تعثّرتُ بصخرة ناتئة في ملعب المدرسة الرثّ، فجُرحت ركبتي، وخرجت مهزوماً من المباراة الأولى، ولم أعد إلى الملعب ثانيةً، كما أنني لست من أولئك الذين يصابون بحمّى الفرجة على مباريات كرة القدم، حتى أنني أهجر مقهاي المفضّل أثناء عرض مباراة ما، مستغرباً حماسة الغوغاء لفريق ما لدرجة العراك بين المشجعين، فما بالك بالقفز عن الكرسي مصفّقاً بجنون لهدف في مرمى الخصم، أنا الذي بالكاد يصفّق لفرقة مسرحية في نهاية عرض إحدى التراجيديات الكلاسيكية. ما يخفف وطأة هذه النهاية الرياضية المحزنة أن روائياً من وزن غارسيا ماركيز تعرّض لضربة موجعة في بطنه أثناء محاولته صدّ كرة نارية في مرمى فريقه، فغادر الملعب إلى الأبد، على غرار ما فعله البير كامو الذي كان حارساً لمرمى نادي وهران. سأجد ضالتي لاحقاً بروائيين وفلاسفة ومفكرين نظروا إلى لعبة كرة القدم بازدراء بوصفها ضرباً من الخبل وتفكيراً بالأقدام لا العقول، كما سيجد فيها آخرون فرصة ثمينة لتفكيك الهوس بالكرة، وتشبيه الملعب واللاعبين بفضاء سردي موازٍ لما يحدث في ملعب الرواية لجهة صناعة الحبكة ومصائر الشخصيات وتحقيق اللذة القصوى بإحراز هدف سردي ما، وفحص هياج لاعب وخيبة آخر، وانتصار ثالث. هكذا اعتبر بازوليني اللعبة حالة شبقية تضاهي شبقية الجنس، فيما لخّص محمود درويش هذه الحمّى بـ «البارود العاطفي»، و«السحر الجماعي الذي لم يحل لغزه الشائع أحد».

دانيال أوغين ــ «الرياضة للرياضيين والسياسة للسياسيين» (أمريليك على كانفاس ـ 120 × 110 سنتم ــــ 2022)

وسيخصص بورتريه لأسطورة كرة القدم الأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا بقوله «لن يجدوا دماً في عروقه بل وقود الصواريخ». كما سيرصد بيتر هاندكه «ذعر الحارس أمام ضربة الجزاء»، مستدرجاً حالة الترقّب والخوف والأدرينالين، والخشية من إثارة غضب الجمهور والفريق في آنٍ واحد. سنلحظ ركاكة الأداء أو توهجه في الملعب، بالتحديقة نفسها اتجاه نصّ سردي، في ندرة المجاز وهبوب ريح المخيّلة أو انطفائها. أرثي لحارس المرمى حين يقذف بثقله نحو اليمين فيما يسدد اللاعب المراوغ الكرة نحو أقصى زاوية في الجهة الأخرى من الشباك. لحظة تشبه إطلاق رصاصة الإعدام من إحدى البنادق الموجهة نحو الضحية. من جهته، سيتوغل الروائي الإسباني خافيير مارياس في عمق المعركة، متسللاً وسط مشجعي نادي «ريال مدريد» بزي مشجّع لالتقاط النبض الجماعي في صعوده وهبوطه، في روايته «أشرار وعاطفيون»، فكان أشبه ما يكون بعدسة مراقبة في تسجيل حركة هذه الكتلة الصلبة وانفعالاتها عن كثب. عزلة بول اوستير لم تمنعه من أن يلقي نظرة نحو عالم الكرة الصاخب والعنيف، معتبراً هذه اللعبة حرباً من نوعٍ آخر في ممارسة كراهية الآخر، من دون الاضطرار إلى تمزيق «أوصال العدو» في ساحة القتال قائلاً: «البلدان اليوم تخوض حروبها في ملاعب كرة القدم، بجنود يرتدون السروال القصير. والمفترض أن هذه لعبة، وأن التسلية هي هدفها. غير أن الذاكرة الخفيَّة لتناحرات الماضي تخيِّم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة».
سيتحوّل الملعب إلى سجادة صلاة، لحظة تحقيق فوز فريق ما في المباريات المحتدمة، عناق جماعي، وركوع فوق العشب، وهتاف، فيما يتحوّل اللاعب المكلل بأكبر عدد من الأهداف إلى أيقونة مقدّسة تتخاطفه النوادي المشهورة باعتباره سلعة إشهارية متنقّلة، من ماركة الفانيلا إلى ماركة الحذاء، إلى عراقة النادي، إلى الأجور الخيالية التي تُدفع لشراء هذا اللاعب أو ذاك، في مراهنات ومضاربات ضارية، تبعاً لمهارته في تحقيق الأرقام القياسية في شباك الخصم، إذ يصعب أن نفصل مهارة اللاعب عن قيمة الصفقة، في رحلة طويلة من المسرّات والآلام، بدأها ذات يوم اللاعب البرازيلي بيليه صاحب أكثر من ألف هدف، مروراً بالأرجنتيني ماردونا الذي انتهى إلى شخص مدمن على الكوكايين باضمحلال أسطورته، وصولاً إلى المصري محمد صلاح، في دورة حياة تتكرّر حقبة وراء حقبة، فيما يجهد خبراء اللعبة في التقاط الموهوبين من ملاعب الأحياء الفقيرة إلى إسبارطيّة النوادي الكبرى.
علينا هنا أن ننصت إلى آلام اللاعب الذي سينتهي إلى مهنة «مدرّب» وحسب. كان جوزيف شهرستان أشهر لاعب كرة قدم في المنتخب السوري في سبعينيات القرن المنصرم، لكنه انتهى اليوم إلى رجل محطّم يسحل قدميه بصعوبة كي يصل إلى أقرب كرسي في المقهى، يتطلّع بأسى إلى من يجالسه، ليروي له نتفاً من أمجاده الغابرة، عندما كان يُلقب بـ «الديزل». وبصرف النظر عن هجاء اللعبة أو تقديسها، فقد استقطبت شعبوية كرة القدم قراءات سوسيولوجية وسيميائية في تفسير هذه الحمّى العالمية لجهة العنصرية والتعصّب وارتفاع منسوب الغريزة. سوف يشبّه أمبرتو إيكو لعبة كرة القدم بطقوس تؤدى وفق عادات آكلي لحوم البشر، يُذبح فيها أحد عشر شخصاً كقرابين للآلهة. لكن من يستحق التضحية به حقاً، هم ممولو هذه اللعبة، ووحوش الصحافة الرياضية والمحطات التلفزيونية. ويرى أنه فوق هذا المسرح المكشوف، يتجلى «استبداد معنوي يفرض على الغالبية نسيان جسدها، لتُعجب بجسد أقلّية». ويضيف: «ما من جماعة ثورية، مهما تكن متطرفة، تفكر في احتلال ملعب فوتبول يوم الأحد!». تمضي اللعبة إذاً، بما يشبه المآسي الشكسبيرية لجهة الخسارة والصراع والفقدان. أن تخرج مهزوماً، كمن أُصيب بفحولته، منكس الرأس، مخذولاً، من إضاعة هدف أو ضربة جزاء. لكننا لن نجد هاملت بين هؤلاء. فقط محاربون أشدّاء يتطلّعون إلى إطاحة الأعداء بأكبر قدر من الخشونة والمراوغة وتكسير الركب. رايات مرفوعة، وأخرى منكّسة، تبعاً لركلات الكرة الصحيحة نحو المرمى، ورعب أو بسالة حارس المرمى. هذا العنف في اللعبة/ المعركة، استدعى وجود مسعفين بنقّالات لإخلاء الجرحى. على أن أسوأ ما يحصل للاعب هو أن يجلس في مقاعد الاحتياط، ينتظر من دون أمل أن يستدعيه المدرِّب إلى ساحة اللعب، وأن يرفع الحكم رقمه عالياً بدلاً من رقم لاعبٍ آخر، كي ينقضّ على الكرة بأقصى طاقته بوصفها طريدة.
سنستعيد مراراً تحفة إدواردو غاليانو «كرة القدم في الشمس والظل» بوصفها انطولوجيا لتاريخ اللعبة، من موقع مضاد للتاريخ الرسمي للكرة، إذ يميط اللثام عن أسرار الكرة واللاعبين، داخل وخارج الملعب، بالتناوب مع الوقائع الكبرى في الحياة العامة، تحت بند «أنا ألعب، إذاً أنا موجود»، فأسلوب اللعب كما يقول هو «طريقة في العيش»، إلا أن اللعب تحوّل إلى استعراض «فيه قلة من الأبطال، وكثرة من المتفرجين. إنها كرة قدم للنظر». ولأن صاحب «ذاكرة النار» لم يحقق أحلامه بقدميه، فكّر أن يحققها بيديه. أن يكتب عن هذه الكرة التي اخترعها الصينيون قبل قرون، مقتفياً أثر عشرات اللاعبين الحزانى بعدما ابتعد عنهم صدى التصفيق في الملاعب. هؤلاء الذين انتقلوا من الأزقة الفقيرة إلى أضواء الاستادات، مراهناً على‏ «وقح مستهتر يخرج على النصّ ويقترف حماقة القفز عن كل الفريق الخصم وعن الحكم وجمهور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق إلى مغامرة الحرية المحرّمة».
يربط سعيد بنكراد متعة اللعب بـ«الاستراتيجية الحربية» و«الاستيهام الجنسي»

ويفسّر احتقار المثقفين للكرة بأن هذا الاحتقار «يستند إلى اليقين بأن عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب، فالغوغاء المصابة بمسّ كرة القدم تفكر بأقدامها، ذلك أن الغريزة البهيمية تفرض نفسها على الجنس البشري، والجهل يسحق الثقافة، وهكذا تحصل الدهماء على ما تريده». وسيبدو الأمر أكثر شناعة لدى معظم مثقفي اليسار الذين يزدرون الكرة لأنها «تخصي الجماهير وتحرفها عن النشاط الثوري». على المقلب الآخر، يضع الناقد سعيد بنكراد صخب كرة القدم فوق طاولة التشريح السيميائي، فيربط متعة اللعب بـ«الاستراتيجية الحربية»، و«الاستيهام الجنسي»، معتبراً لعبة كرة القدم حالة ثقافية فريدة تنوس بين استراتيجية الحرب وإحالاتها المتعددة على العدوانية والاقتتال والنصر، أو الهزيمة، كما تحيل إلى عوالم الأنوثة والذكورة بدلالتهما الجنسية. أما في ما يتعلق بالارتواء أو حالات الكبت، فالأمر يحدّده «الهدف»، أي الارتقاء الانفعالي التصاعدي من حالة بدئية تمثل حالات المراودة والتنقل في «جغرافية الملعب» تمهيداً للوصول إلى أقصى حالات الانتشاء من طريق إحراز الهدف. هذا ما يفسّر الطابع الذكوري للعبة، باستثناء الكرة التي هي وحدها مؤنثة. مبدأ الرجولة إذاً، هو الرابط بين الاستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي. ذلك أن الجنس في المتخيل الذكوري معركة، وكلّ أداة هي إحالة على الفحولة. وهذا ما تؤكده أيضاً الروائية الألمانية الفريده يلينك لجهة ذكورية اللعبة وما تنطوي عليه من تعصّب وعنف وتحريض على الفاشيّة.
ويوجه روبرتو فونتانا روسا في قصته «حكاية عامل غرف» البوصلة نحو شخصية مهملة لا يكترث أحد بأخبارها، وهي شخصية عامل الغرف، الذي يقوم بترتيب قمصان اللاعبين وسراويلهم القصيرة وأحذيتهم، ويحصي أزواج الجوارب، ويرى إذا كان هناك سروال قصير ضائع. شخص مجهول يتواجد مختبئاً أسفل القاعدة الإسمنتية للمدرّجات، كأنه في خندق «أحلم دائماً بأن الاتحاد الأرجنتيني سيقرر يوماً ما إدراج أسماء عمّال الغرف، حينما يعلن تشكيل الفرق، أو عرضها فحسب بأحرف صغيرة على اللوحة الإلكترونية».
لكن مهلاً، هناك عبارة أهدتها لعبة كرة القدم لجميع الحقول الأخرى، بما فيها الحوارات الساخنة بين خصمين أيديولوجيّين، عبارة بأقل من سطر واحد «حسناً، الكرة في ملعبك!».