يلعبون كرة القدم، نشاهدهم يلعبون كرة القدم، ولكن هل جرى وأن فكّرنا مليّاً بهذه اللعبة التي تدعى كرة القدم؟ في كتابه «فيم نفكر حين نفكر في كرة القدم؟» (الصادر حديثاً عن «دار مدارات» بترجمة محمود عبد الحليم) يضع الفيلسوف البريطاني سايمن كريتشلي موضوع كرة القدم تحت مجهر البحث الفلسفي بلغة تبسيطية، رشيقة، تكاد تشبه لغة المقال الصحافي، مشدداً منذ البدء على وضع الأمور في نصابها. الغاية من هذا التفلسف ليس خلق برج فلسفي عالٍ مشيّد بأساسات قوامها عناصر اللعبة ومبادئها، فاجتهاد نسق منهجي عنوانه «فلسفة كرة القدم». تفلسفه يركن على مقلب النقيض؛ العمل هو زج الفلسفة في منطقة تبدو، للوهلة الأولى، مهجورة عن الشأن الفلسفي لأسباب تخص طبيعة الموضوع الذي يندرج في خانة الفيزيولوجي والترفيهي. غالباً ما تتنصل الفلسفة بشكلها الكلاسيكي، من خوض غمار كهذا. القول بأن الموضوع يندرج في خانة اللعب، يجرّ الخطاب إلى مضامين الجسد وقوام حركته، لكن عند كريتشلي، إن الفصل بين العقل والجسد بات من التراث البائد. يقدم الكاتب رؤية متفرّدة تندرج ضمن مهمة فينومينولوجية (منهج علم الظواهر) يراهن صاحبها على زخم الكلمات في الوصول إلى مداها الأقصى في التعبير. لذلك يستعين بالشعر، وبالأحرى، يطالب الشعر بالتدخل وإنقاذ الفلسفة عند محاولتها الغوص في كرة القدم بغية كشفها. القول بفينومينولوجية العمل، يعني أنّ الأخير يشترط على ظاهرة، وأن الأخيرة علّته. من هنا، يضع كريتشلي كرة القدم «بين قوسين»، باعتبارها ظاهرة تحمل في طياتها الكثير من المعاني والدلالات، وإن دلت بظاهرها، على الجمال والحماسة والإثارة، إلا أنها ليست محصورة في هذه الزوايا فحسب، علماً أن هذه الزوايا أرض خصبة للتفكير الفلسفي، ما يعني أنّ كرة القدم أصلاً، موضوع جاهز للتفلسف. حسناً، فيم فكر كريتشلي حين فكر عن كرة القدم؟
ايرينا باب. «الاستاد المركزي» (كييف. أوكرانيا. 1967)

على عكس العديد من الألعاب الرياضية الأخرى، إن كرة القدم بجوهرها، لعبة جماعية، تطغى عليها النزعة التعاونية بين اللاعبين. بل إنه فقط من خلال التعاون، تكون اللعبة. الأخير شرطها لأنه الشرط الوحيد للاستحواذ على المساحة، والسيطرة على الوقت، وبروز كفاءة اللاعبين. وهذه باختصار، العناصر التركيبية لكرة القدم. عندما أراد سارتر فهم طبيعة العمل التنظيمي، وكيفية القيام به، التفت نحو كرة القدم. ينطلق كريتشلي من الخلاصة السارترية التي تنظر إلى العلاقة الجدلية ما بين الفرد والجماعة وتحرص على عدم امحاء أحد على حساب الآخر من خلال انصهار التناقضات في نسيج واحد لخلق هيكلية منظمة. إن الممارسة الحرة التي يقوم بها اللاعب (البراكسيس بتعبير سارتر) بالنسبة إلى كريتشلي، تخضع للمحايثة وللتعالي في آن. فاللاعب مهما كان بارعاً إنما هو عنصر في بنية، وبالتالي، فعليه التوغل في فريقه، وصقله بمهاراته، التي لا وجود لها بدون وجود «فريق» يسمح له بتعزيز هذه المهارة وتطويرها. على هذا النحو، يرى كريتشلي أن الطابع السياسي الذي يمكن أن نستقيه من كرة القدم، هو الاشتراكية. غير أن اللعبة لا تحفزّ المشاعر الاشتراكية على الإطلاق، وإن أثارتها فتأتي هزيلة وغير واقعية بسبب هيمنة رأس المال على تفاصيل اللعبة وبمنظّميها، بيد أن هذه الهيمنة، التي هي جزء من عالم كرة القدم، تحث على مشاعر القيء والقرف جرّاء الوجه النقيض للاشتراكية، أي النيوليبرالية المتأصلة في اللعبة.
يبقى أن هذا المشهد الاشتراكي جميلٌ مهما تعددت أساليبه وأشكاله. ولأنه متعدد، يخوض كريتشلي غمار التعقيب على طبيعة اللعبة الهجومية والدفاعية، مدافعاً عن الأخيرة بوجه الاتهامات الموجهة ضدها على شاكلة أنها مملة ومضجرة. هكذا، ينفي كريتشلي هذا «السلب» التي تتسم به الكرة الدفاعية، الإيطالية تحديداً، معتبراً أن مهمة الحفاظ على توازن القوى والتناغم المستقر هو شكل جمالي لا يمكن إنكاره، وهو يشبه إلى حد بعيد لعبة الشطرنج في دقة الاختيار وأهمية الحركة، مقتبساً من المعلق الرياضي الإيطالي جيانا بريرا قوله «المباراة التي تنتهي نتيجتها صفر مقابل صفر هي المباراة الأمثل». لكن كريتشلي، الذي لا يخفي انحيازه لفريق «ليفربول»، ولا بإيقاع اللعب السريع، يرى في اللعبة الهجومية جمالاً من نوع آخر؛ فهي تحمل في طيّاتها تحدياً للزمن، موقفاً مقلقاً حيث كياننا يترنح بين لحظتين: اللحظة الحاضرة واللحظة القادمة فيما المصير مجهول. يستعير كريتشلي أدوات تحليله من هايدغر، فيرى أن كرة القدم مع مدرب «ليفربول» يورغن كلوب، تشبه ما يسميه هايدغر «غفلة عين»، حيث اللحظة ليست أكثر من ومضة، ولكن في هذه المدة القصيرة التي لا تطول، نكون أمام حالة من الجمود والترقب. حاضرنا متشظّ بين وجودنا المعلّق وكأننا في حالة جمود، وبين «وجودنا هناك» (دازاين)، منفتحون على التغيّر في حالة عدم الاستقرار، مركزون على احتمال حدوث الحدث ونترقب حدوثه. في غفلة العين هاته، فإن كل الاحتمالات لتشكيل التاريخ، مفتوحة. يعتبر كريتشلي أن على أرضية الملعب «كل شيء يبدو حياً، حتى الكرة نفسها». لذلك، فإن محاولة الفصل بين الحقيقي والخيالي أشبه ببتر اللحم عن الجلد. كل الأحداث التي تجري وسط الملعب حقيقية، فاللعب ليس لهواً عبثياً مجانياً. هو ليس محاكاة أو تقليداً ولا تمثيلاً مزعوماً، إنما هو أعلى مراحل الجدية. لكن اللعبة تشترط على لاعبها ما يسمّيه كريتشلي «التجرّد من الذاتي» أي التخلي عن التفكير، واستبدال ملَكة العقل بالغوص المطلق في اللعبة. عند الفينومينولوجي، إن الوعي لا يكون إلا قصدياً، أي إن الوعي هو وعي بشيء أو لا يكون. على هذا النحو، يعرّج كريتشلي على ميرلو بونتي في محاولة منه لتفسير علاقة الذات بالموضوع، ولفهم طبيعة الوعي عند اللاعب. فإذا كانت الأجساد محكومة بحدود الملعب، وأصحابها يمارسون اللعبة، وبشكل تلقائي، في المساحة المتاحة لهم للعب، فهذا يعني أنّ هناك حيّزاً مخصصاً للعب قد جاء سلفاً، أي مفروضاً على اللاعبين مسبقاً، بالتالي، فاللعبة تفرض نفسها على اللاعب، وما وعيه إلا الوعي بها: وعيه باللعبة التي يلعبها ضمن الحيّز المفروض عليه، والمتاح له. إن التطابق بين الذاتي والموضوعي، كفيل بطرد كل محاولة فصل، لأنه بحسب كريتشلي، لكي نفهم اللعب فعلينا أن نترك وراءنا لغة الذات والموضوع، لغة الوعي والتفاصيل العابرة.
كرة القدم رهان ودّي مع الزمن، هي تجربة مفتوحة أمام حاضر متغير يحكمه المجهول، «حياة غامضة مليئة بالمشاعر» على حدّ قول الفيلسوف الأميركي ويليام جايمس، ولكن كريتشلي، يجزم أن كرة القدم هي دراما أكثر من المسرح نفسه. دراما لا تكتمل بدون جمهور في المدرجات، ومشاهدين مشجعين، وبالطبع، فرق تتنافس. هذا المسرح لا يستقبل المصائر فحسب، بل يحث على استعادة طقوس قدامى الإغريق. يشرح كريتشلي في فصل تحت عنوان «الموسيقى تدوّي» كيف أن أهازيج الجماهير وصخبهم يمثل الجانب الديونيسي للعبة، مستعيناً برؤية نيتشه حول الشخصية الملحمية التي ذاعت في المسرح الإغريقي التراجيدي، وتتشكل من النزعتين: الديونيسية والأبولونية. فإذا كان الفريق بتنظيمه وأسلوبه وبشكله (shape) يُبرز الأبولوني الجميل، فإن أجواء الصخب العارم، وإطلاق العنان للمشاعر من قبل المشجعين يبرز الديونيسي أو السامي (sublime). والميل الأخير، هو ما يجعل من اللامرئي مرئياً، لأن ما وراء الأداء المُتمظهر على أرضية الملعب، هناك روحٌ لا تبثها سوى موسيقى الجماهير، روح لا تتجلى إلا في صداح الحناجر. إن اللعبة كمشهد حقيقي يولّد فائضاً غزيراً من أحاسيس الزخم والمهابة التي تبلور، بدورها، أفعالاً. فالحالة الداخلية تتجسد، تستمد شكلها بعد أن تعي على نفسها وتفرض حالها، ما يجعل المشجعين كمتفاعلين مع ما ينظرون إليه، شركاء في هذه اللعبة.
اللعبة لا تحفزّ المشاعر الاشتراكية بسبب هيمنة رأس المال على تفاصيلها ومنظّميها

إن جوهر ما قدمه كريتشلي في كتابه ينطوي على أن اللعبة لا تصل إلى حالتها الشمولية بدون متفرجين، بل إن المتفرج يعدو ليكون أكثر امتيازاً من اللاعب نفسه. على هذا النحو، يلجأ كريتشلي إلى لغة هيغل ومصطلحاته، ويعرّف طبيعة وجود اللاعبين بأنّه «وجود لنا» عوضاً عن «الوجود في ذاته». هو وجود منفتح، يأخذ مداه حين يعبر ويمر في الآخر، ولأن وجود اللاعبين لا يكتمل بدون وعي المتفرج بهم، وإدراكه لقيمة ما يمارسونه، ولمعناه. من جهة أخرى، يستعير كريتشلي نظرية المتفرج من غادامير، الذي عرّفه بأنه «الحاضر في اللحظة»، إلا أن مهمته تقتضي الانغماس في فرجته «فنحن لا نشاهد أنفسنا إنما نشاهد اللعبة». لكن المتفرج عند غادامير مقرون بمسافة، أي أنه يشاهدها من دون أن يكون فاعلاً مباشراً فيها. ما يقترحه كريتشلي، هو اشتقاق للفعل التنظيري من خلال مشاهدة اللعبة، بغية المواءمة بين النظرية والممارسة، فالوصول إلى البراكسيس. اكتمال الجدلية بحسب كريتشلي، تجيء لصالح المتفرج، فترقى به وتعطيه امتيازاً فائقاً، حيثما يكون برتبة أعلى من اللاعب، لأن اللعبة التي يتفرج عليها تلعب له. كما يتيح هذا الارتقاء له بموقع يلامس موقعة الحَكَم الذي يشاهد اللعبة عن كثب ويديرها. فالمتفرج من خلال مشاهدته وتنظيره، يدير اللعبة بشكل خاص، بشكلٍ مختلف. إن كرة القدم هي لعبة تلعب، ولعبة تُشاهد، وبما هي مشهدية جمالية محملّة بطقوس وتقاليد، هي أيضاً شأنٌ عرضة للتموضع والتشجيع. ومثلما يتطلب من المتفرج التنظير، واللعب بالنسبة للاعب، فإن الحجة والمنطق هما قوام المشجع وما هو المطلوب منه. عند كريتشلي، إن كرة القدم هي «الفضاء العام» الأمثل للتفكير بنظريات التواصل وقوة الحجة كما نظّر لها هابرماس، فيمكن لرأي طفل صغير أن يكون محقاً تجاه مسألة كروية، كما هي الحال أيضاً، بالنسبة لفيلسوف مخضرم. أن تبصر العين مشهدية جمالية، وأن يكون اللسان، في الوقت عينه، نقدياً، وبالطبع، أن تكون كرة القدم مصنعاً للحجج وللنقاشات العقلانية، كانت أسباب كافية سمحت لكريتشلي، بأن يتفلسف بالكرة، حينما فكر في كرة القدم.