ترجمة وتقديم: محمد ناصر الدين
في ديسمبر 1987، بعد فترة من توقف مسيرته كلاعب كرة قدم، وافق ميشال بلاتيني قائد منتخب فرنسا وفريق يوفنتوس الفرنسي على إجراء مقابلة مع الأديبة والروائية مارغريت دوراس (1914-1996) في مناسبة إصدار كتاب عن مسيرته في الملاعب، لا سيما ذكرياته في مونديال 1986 الذي خرجت منه فرنسا في نصف النهائي بهزيمة مذلّة أمام خصمها اللدود ألمانيا: «ساعة مع مارغريت دوراس، كان الأمر أصعب بالنسبة إليّ من أي مباراة في مسيرتي. بعض الأسئلة كنت أجد صعوبة في فهمها»، كما حين طرحت مارغريت دوراس السؤال: «ما هذه اللعبة الإلهية والشيطانية؟»، ليجيب بلاتيني بأنها لعبة ليس لها حقيقة ولا قانون، لا شيء مطلقاً ويجتهد الكل في تفسيرها. اختبر الساحر الفرنسي هذه المقابلة على أنها شيء غير واقعي تماماً، أو بالأحرى سوريالية، إذ «لم أكن أعرف من هي مارغريت دوراس، ولم أكن على دراية بمدى تأثيرها الأدبي. لم أقع تحت تأثير هالتها، لأنني لم أقس أهمية هذا الشخص في عالم أدبي لا أعرف عنه شيئاً تقريباً. من ناحية أخرى، كنت مهتماً جداً، لأنني أحببت دائماً التواصل مع الأشخاص الذين ليسوا لاعبي كرة قدم وكنت متأكداً أن قدمها لم تطأ أرض الملعب يوماً». لكن بلاتيني يتحدث في ما بعد أن دوراس سحرته هي الأحرى بلعبها على الكلمات حتى أنها اخترعت كلمة، الملائكية، للحديث عن لاعبي كرة القدم. «اعتبرتني ملاكاً أزرق... كان الأمر ممتعاً، كان جديداً، كانت طريقة مختلفة تماماً لرؤية الرياضة». ننشر في «كلمات» مقتطفات من هذه المقابلة التي نشرت للمرة الأولى في صحيفة «ليبراسيون» والتي جرّت فيها صاحبة «العشيق» و«هيروشيما يا حبي» ميشال بلاتيني إلى ملعبها لتختلط كرة القدم بالحديث عن السياسة والثقافة والأدب والحياة، والذكريات الحلوة والمرة في الملاعب، لا سيما كارثة ملعب هيسل في بلجيكا في نهائي كأس الأندية الأوروبية بين فريقي «يوفنتوس» الإيطالي و«ليفربول» الإنكليزي


م.د: هل أصابتك كرة القدم بالإحباط؟
م.ب: كلّا، أبداً. ما أحبطني هو المحيط، وليس الكرة.
م.د: أتكلّم عنك وقد أخذتك الكرة، عن حياتك اليومية كلاعب...
م.ب: كرة القدم هي شغفٌ أولاً. لقد شغفتني دائماً. ما أحبطني هو أنني في لحظة معينة اضطررت للذهاب ذات اليمين وذات الشمال من أجل لعب مباريات معينة. هنا بلغ السيل الزبى...
م.د: بدءاً من أي سنة كان ذلك؟
م.ب: من اللحظة التي بدأت مسيرتي بالانحدار.
م.د: عام 1984؟
م.ب: كلّا. عامَي 1983 و1984 كانتا أفضل سنواتي. أقول ربما نهاية عام 1985، حين فزنا بالكأس القارية. كنت في فريق «يوفنتوس» وربحنا كأس العالم للفرَق.
م.د: هل كانت فترة كارثة ملعب هيسل؟
م.ب: موقعة هيسل كانت قبل ذلك. أربعة أشهر قبلها. وأنا ذروة عطائي كانت في كانون الأول (ديسمبر) 1985، ومن بعدها...
م.د: في كرة القدم، أرى ملائكية ما. أرى البشر، والرجال، في المعنى الإنساني، في نقاء لا يحدّ وهذا ما يدهشني للغاية. وأظنّ أن هذا هو أساس انفعالي حين أشاهد كرة القدم. لقد شاهدتك في مونديال مكسيكو. لقد شاهدتك تعاني، وكنت أودّ أن أقتل مارادونا أيضاً. أرأيت، ها قد اشتغلت بطريقة مثالية.
م.ب: يا للشوفينية!
م.د: كلا، لكنني أرى أيضاً أن مفهوم الوطن موجود في كل مكان، وفي هذا المقام أيضاً. وأن مفهوم الكرة يستبدل ذاك الذي للبلد الأصلي. لكن، هل تتفق معي على كلمة «ملائكية»؟ الملائكية لا تعرف حدوداً، ولا أوطاناً. عليَّ أن أعترف: لولاك لما عثرت على هذا المصطلح. لكن انسَهْ.
م.ب: سأنساه.
م.د: لاعب كرة القدم هو في ميدان مكشوف تماماً. يبدو عارياً. إن كذب فسيُرى ذلك. إن خاف، فسيُرى ذلك. إن كان أحمقاً صغيراً فسيرى ذلك. إن كان وغداً حقيراً فسيُرى ذلك أيضاً.
م.ب: يُرى الأمر بسهولة من قِبَل لاعبي الكرة، ولكنه يبدو أصعب للآخرين.
م.د: أقول أنه يرى عبر اللعبة من قِبلكم. لكنّ هناك بشراً أيضاً يشاهدون اللاعبين، النساء مثلاً...
م.ب: للّذين يعرفون اللعبة جيداً، هذا واضح، ولكن ليس للجميع. ثمة لاعبون على مستوى عالٍ لكنهم لا يخدمون الفريق. لأن الهدف، غائية كرة القدم، هو أن يفوز الفريق، وليس أن يفوز المرء وحده.
م.د: هناك أيضاً اللاعبون من أجل الأضواء. لكن العظمة هي في اللُّحمة مع الفريق.
م.ب: هذا صحيح. هناك اللاعب الجيد لكنه لا يجعل الفريق جيداً. ثمة لاعبون سيئون ويُنتقد أداؤهم لكنهم يجعلون الفريق جيداً. من الغريب أن أحداً مثلك ينتبه لذلك، وأنت بعيدة عن كرة القدم.
م.د: مهنتي في الحياة هي أن أشاهد. ملعب كرة القدم هي مكان حيث الآخر يتساوى بك. المساواة. لكنه ما يجعل من كرة القدم فريدة من نوعها. أنت تقول: «نحن خطيرون، يمكننا أن نكون بمنتهى الخطورة».
م.ب: على مستوى ردات الفعل، نحن خطيرون. يمكن أن تكون للكرة ارتدادات عالمية لا ينتبه إليها المرء أحياناً.
م.د: هذا صحيح. قرأت عن عدد القتلى في كتابك. منذ موقعة ليما (320 ضحية)، هذا أقرب إلى حصيلة حرب.
م.ب: أتعلمين، حين نلعب بشغف لا يدور هذا الأمر في خُلدنا. يمكننا أن نشكّل خطراً، هذا صحيح. لدينا ثقل معنوي في العالم ولا نستخدمه لأننا لا نعيه. ولا أعرف إن كان لنا الحق بأن نستعمله.
م.د: كنت أشاهد التلفاز حين حدثت موقعة هيسل في أيار (مايو) 1985. لم نكن نعي ماذا حصل. كان ذلك كما لو أن العالم قد بدّل جلده، ولم نعد نتعرّف على هيئته. إحساس بالجنون رأيناه في أحداث هيسل. هل كنتَ هناك؟
م.ب: كنت في غرفة تبديل الملابس. طلبوا مني أن أذهب لأهدّئ الشباب المتعصّبين. 11 لاعباً من يوفنتوس و11 لاعباً من ليفربول، كنّا الوحيدين الذين لم نرَ الكارثة. لقد شاهد الحادثة ملايين الناس على التلفاز أما نحن فكنّا نتحضر للمباراة في غرف الملابس ولم نرها قَطّ.
م.د: لكن رغم 84 ضحية قد سُحقوا، بين مصاب وقتيل، فقد لعبتم المباراة. لقد كانت الطريقة الوحيدة لتطويق الحادثة، لكبح جماحها.
م.ب: سأقول لك شيئاً: في كرة القدم، ليس للّاعبين سلطة. إنهم خاضعون للرؤساء، وقد قرّر هؤلاء أن يلعبوا من أجل حماية البيئة. لو لم نلعب المباراة لكانت المطاردات في شوارع بروكسل.
م.د: لكن قل لي، ما الذي جعل من هؤلاء الشبان مجانين إلى هذا الحدّ؟
م.ب: هم متعصّبون مسبقاً لكرة القدم، ويمكنهم أن يلقّنوا أشياء ليست دقيقة تماماً: لقد قيل لهم أن الإنكليز قتلوا 35 إيطالياً. لم يكن الأمر كذلك، ضحايا هيسل سُحقوا من المتفرجين الذين كانوا يحاولون النجاة من انهيار الجدار، ولم يُقتلوا عمداً. أما نحن، فحين نكون في ملعب كرة القدم، حين نفكّر بالكرة، بشبابنا، بمراهقتنا، يصعب علينا التفكير بهذا العدد من القتلى ونحن نلعب. حين أسجّل ركلة الجزاء، أكون سعيداً وتنقذني الكرة من البؤس الإنساني. لكنني في هذا اليوم صرتُ رجُلاً! لنقل أنني انتقلت من عالم كانت فيه كرة القدم لعبة إلى عالم صارت فيه الكرة فضاءً للعنف، كما في لحظة تكون لدينا ألعاب للأطفال ثم نخسرها حين نعبر إلى البلوغ.
م.د: لكنك تلعب بحزمة من الديناميت، دائماً! 80 ألف متفرّج في الستاد. هذا معطى تراجيدي!
م.ب: أنت تعرفين ذلك، وليس أنا. لأنّ حلمي كان بأن ألعب الكرة أمام أكبر جمهرة من الناس، أن تكون الكرة عيداً، أن يسعد الناس ويغنوا... في المقلب الآخر لطالما كنت خائفاً من الجمهور. لم أذهب قَط إلى المسرح أو السينما.
م.د: لكن حين تأخذ شخصاً لا يمكنه تحمّل ذلك دون قلق، شخص ممتلئ بالصور، بالصور الفظيعة، بالاحتلالات، والحروب، ومخيمات الاعتقال، ولا يمكنه مجاورة الجمهور، لكنه في الوقت ذاته يعيش... لأن الكرة هي رغم ذلك أحد أكبر مباهج النوع الإنساني، ومن أكثرها وضوحاً وتحققاً. ألا تخاف في الملعب؟
م.ب: البتّة. لأنني وفي منتصف الملعب أكون محاطاً بالأسوار.
م.د: ماذا عن80 ألف مشاهد؟
م.ب: هذه هي كرة القدم.
م.د: بالله عليك ما هي هذه اللعبة الربّانية والشيطانية؟
م.ب: هي لعبة تسحر الألباب. لماذا هي كذلك؟ لأنها لا تمتلك حقيقة. لا يربح الأقوى دائماً أمام الأضعف في الكرة.
م.د: هلّا استعملتَ كلمة غير الحقيقة... قانون مثلاً؟
م.ب: ما من قانون. ما من حقيقة. لا شيء. ومن ثم نحاول أن نفسّره. لهذا يمكننا دائماً أن نتحدث عن الكرة ونكتب المقالات.
م.د: يجب التعامل مع الخطأ إذن ومع العبثية. ذلك اللاعب الذي يسدّد في اتجاه بينما ينبغي عليه التصويب في اتجاه آخر، وهذا ما يحملني على الضحك حتى تدمع عيناي! هل ثمة جنون يستحوذ على اللاعبين، ولو كانوا مثاليين، هل كانت لتوجد كرة القدم؟
م.ب: كانت المباريات ستنتهي بنتيجة 0-0، وليس ثمة أهداف مسجّلة، لو لم يرتكب أحدهم هفوة ما.
م.د: لكن الجياد في السباق لا ترتكب أخطاءً. هذا الأمر أكثر ثقة مما عند البشر. أتكلم عن الجياد لأني أحترمها كما البشر على حدّ سواء. لكن هل تعرف الجياد هذا الجنون، أم أنه مختص بالبشر فحسب؟
م.ب: كيف ذلك؟ في السباق يمكنها أن تتقافز جنوناً، لكنها مكمّمة الأعين، ونحن لسنا كذلك في الملاعب.
م.د: نعم إنها تصاب بالرعب. صحيح ما تقول.
م.ب: يصعب عليّ أن أفسر كرة القدم، ربما أعرّف سباق الخيول بشكل أفضل.
م.د: هذه المقارنات تثير اهتمامي.
م.د: أتذكّر يأس منتخب فرنسا في مكسيكو. لقد فازت الأرجنتين. عبر الهذيان، والأغاني، وصرخات الجمهور، كنت أسمع صمت الفريق الفرنسي... ماذا حصل؟
م.ب: كان الأمر في المكسيك أن ننتقل بالفريق الفرنسي من المستوى الجماعي إلى كرة بنطاق رؤية أوسع. لقد كنّا أقوى من الألمان وخسرنا. كنا أقل مستوى من البرازيل وفزنا. تسافرين في العالم أجمع وتسمعين بالكرة الفرنسية. هي الشيء الوحيد الذي يُحكى عن فرنسا، إضافة إلى العطور...
م.د: والأدب.
م.ب: نعم، الأدب، ولكن لو ذهبتِ إلى الأطفال الفقراء في ماليزيا أو أندونيسيا، فلن يحدثوك عن الأدب... للأسف!
م.د: لكنني مترجمة إلى ثلاثين لغة. ثلاثون لغة هذا أكبر من أوروبا وأميركا.
م.ب: لكن لو قصدتِ كرنفال الريو، ستبدو الكرة أهم من الأدب...
م.د: ملعب كرة القدم، هذه المساحة حيث يلعب اللاعبون وينحبسون، هي مسرح يشاهده المتفرجون، حيث تدور المواجهة، إنه مكان مسيّس بامتياز: إنك لا تلعب لتلعب، ولكن تلعب في مواجهة عدو... بالتأكيد ليس هناك ترجمة سياسية لما يحصل في الملعب، لكن ثمة أنواع من الرفض للآخر، من العنصرية، من ما قبل الفاشية، فاشية بمظهر بريء نراها في المدرجات كما في المدارس والجامعات، وفي المنتسبين إلى الأحزاب السياسية.
م.ب: أتعلمين، ما عدا بعض المباريات حيث يكون هناك لون واحد طاغ في الملعب، كما في ملعب الأمراء حيث كلنا فرنسيون، أو في لندن حيث الكل إنكليز.
م.د: لكن أقصد إنه المزاج ذاته الذي هو في أساس الفاشية.
م.ب: لا يمكنني أن أجاريك في هذا الميدان الذي أعرفه لماماً.
م.د: كرة القدم مكان ذكوري. لا تذهب النساء إلى الكرة.
م.ب: السياسة كذلك.
م.د: انتهى الأمر في السياسة.
م.ب: وفي الكرة كذلك. ثمة منتخبات للنساء في كل مكان.
م.د: أتحدث عن جمهور النساء. يقال أنهنّ لا يصطحبن لمشاهدة المباريات لأنهنّ عاجزات عن فهم الكرة. هل يحتاج المرء للذكاء ليكون لاعب كرة؟
م.ب: ليس بالضرورة. يجب معرفة إدارة النجاح، وهو أمر صعب. من الصعب أن يكون المرء لاعباً كبيراً لـ15 سنة. هذا سهل لمباراة واحدة. ثمة لاعبون صنعوا مجدهم في مباراة واحدة. ثمة آخرون يفعلون المستحيل ليظهروا على التلفاز، ويلعبون من بعدها وهم يحيون على لحظة مجد عابرة. أنا لم أعش البتة على لحظة عابرة: كما في الحياة، أعرف ما هو أمامي، وأصنعه، لذلك لم يكن العبور صعباً من الكرة إلى الحياة المدنية حيث ما زال الكثير أمامي لفعله.