ترجمة وتقديم: رشيد وحتي
هو ليس فقط شأنَ تناولٍ أدبيٍّ لموضوع كرة القدم، فكثيراً ما قيل بأنَّ الكُتَّاب يكرهون كرة القدم. لكنَّ تاريخ الأدب يقول العكس. ثمَّة كتّاب تركوا لنا في مدوَّنة الآداب العالميَّة نصوصاً من صميم ممارستهم الفعليَّة لكرة القدم كلاعبين، أبرزهم: ألبير كامو، حارس مرمى «فريق راسينغ الجزائر» العاصمة في عام 1929، وأنطوني بيرجيس، وولتر سكوت وفلاديمير نابوكوف.

ربما كانت موضوعة كرة القدم، بعد السِّياسة ـــ أو لارتباطها الصميمي بالسياسة ــــ ثاني موضوع يفرِّق الكُتَّاب إلى يساريٍّ ويمينيِّ. احتدام لخَّصه جورج أورويل في عبارته الشهيرة: «كرة القدم حربٌ تنقصُها البنادق». وبوسعنا، انطلاقاً من أميركا اللاتينية، قارة كل الصراعات السياسية بامتياز، استنباط قطبين لهذا العراك الرياضي-السياسي، بانتقاء بورخيس ممثلاً لقطب اليمين، إن لم نشأ القول اليمين الفاشي، من خلال قوله التحقيري الشهير: «كرة القدم شعبية، لأن كل ما هو بليد شعبيٌّ»، ليكون ممثل قطب اليسار بلا منازع الكاتب الأورغوياني إدواردو غاليانو.
ثمّة مقابلات بعينها تكون فيها كرة القدم مجرَّد ذريعة لإبراز الذات أو الانتقام أمام الخصم السياسي، أو حتى إحياء نعرات وعداوات الماضي، أكثر من كونها تنافساً رياضياً بريئاً: إنكلترا/الأرجنتين، إيران/و.م.أ، المغرب/الجزائر، ألمانيا/إنكلترا، ألمانيا/ فرنسا.
ونحن على مسافة أيام من انطلاق مونديال قَطَر، برز من جديد في الإعلام الغربي الكثير من الاعتراض على تنظيم دولة «صحراوية» ومنتهِكة لأبسط حقوق الإنسان لهذه المنافسة العالميَّة، ليتناسى الغرب أنَّه هو من رعى هذا التنظيم بالحملة الإعلامية للتصويت للدوحة في كواليس الفيفا، ليتناسى هذا الغرب نفسه ماضيه وحاضره الاستعماري في تذبيح شعوب الشرق والجنوب. لكن ذلك لا يمنع أبداً وجود ضمائر حيَّة في الغرب ترفض هذا المونديال من منطلقات مبدئيَّة كما هي الحال بالنسبة إلى اللاعب الفرنسي السابق إريك كانتونا، ذي الميول اليسارية المستقلَّة عن تفاهمات ما تحت الطاولة بين الكولونيالية ووكلائها المحليين.
لا يفوتنا، في خضم هذا المزج، الذي صار ملحّاً، بين الرياضة والسياسة، توجيه تنويه خاص إلى جل الفرق الإيرلندية والإسكتلنديَّة، ابنة الشعوب المكتوية بنار وقهر الإمبراطورية البريطانية، وبعض فِرَق المدن العمالية الإنكليزية، لاعبين وجمهوراً، في دعمهم اللامشروط لحقوق الشعب الفلسطيني وباقي الشعوب العربية في تقرير مصيرها وانعتاقها من المحتلَّيْن الوكيل والأصيل.
بهذا الخيط النَّاظم، اخترنا لهذا الملف نصوصاً وشذرات أدبيَّة راوحت بين الشغف الكامل بكرة القدم وجماهيرها يساراً، والكره اليميني، الذي يلامس الفاشية، للعبة، ولما يحيطها من جماهير؛ من دون أن يفوتنا أيضاً انتقاء بعض النصوص التي حاولت سبر أغوار سيكولوجية اللاعبين والجمهور في التفاعل مع الكرة والوقائع في الملعب.



إدواردو غاليانو: إله قذر
لم يسبق لِلاعبٍ مكرَّسٍ، حتَّى الآنَ، أنْ أدانَ، دون أن يلوكَ كلماتِه، سادةَ تجارة وصفقات كرة القدم. إنَّه الرِّياضيُّ الأشهر والأكثرُ شعبيَّة في كل الأزمنة، والذي دافَعَ عن قضايا لاعبين ليسوا لا شهيرين ولا شعبيِّين. كان هذا المعبودُ النَّبيل والمتضامِن قادراً، في ظرف خمس دقائق، على اقتراف الهدفين الأشدِّ تناقضاً في كل تاريخ كرة القدم: الأول هدف فنَّان جدير بالإعجاب، بمراوغةٍ من شيطنة ساقيه، ولكن أيضاً، وربما أكثر، بالنسبة إلى هدفه «المسروق»، الذي سلبته يداه.
لم يكن دييغو أرماندو مارادونا معبوداً لبهلوانياته الخارقة فحسبُ، ولكن أيضاً لأنه إلهٌ قَذِرٌ، خَطَّاءٌ، أكثرُ الآلهة إنسانيَّة. لكلِّ شخصٍ أن يتماهى معه، كتركيبة متجوِّلة من الْهِناتِ البشرية، أو الذكورية في أدنى حد: زير نساء، شرِه، غشَّاش، كذَّاب، متبجِّح، غير مسؤول.
ولكنَّ الآلهة لا تتقاعد، ولو كانت بشريَّة. لم يستطع أبداً العودة إلى الجمع الغفير المجهول الهوية من حيث أتى. فالشهرة التي أنقدته من البؤس، جعلَتْه أَسيرَها.
كان محكوماً على مارادونا أن يلعب دور مارادونا، مجبَراً على أن يكون نجم كل حفل، طفلَ كل تعميد، وميِّتَ كل عزاء.
النجاح مُخَرِّبٌ أكثر من الكوكايين. ولكنَّ تحاليلَ البول والدَّم لا تكشِف عن هذا المخدِّر.

إيديلبيرتو كوتينو: في ملعبِ مَارَاكَانَا
لا شيءَ أكثر طبيعيَّةً (تعليقٌ من محرِّرِ الرُّكن) من أن ترى آمِيلْيَا في حارس مرماها، طالب التَّاريخ، الشَّابِّ المثقَّف، تمثيلاً بعينه للمُثُلِ الإغريقيَّة بصدد المثقف-الرياضيِّ. فهما معاً عاشا حقبة كرة القدم في أبهى حُلَلِها. رياضة نخبويَّة، يمارسها حصراً كبار موظَّفي الشركات الإنكليزية التي أرساها هنا بعض مترَفي البرازيليين الذين كانوا اشتروا في أوروبا الأجهزة النفيسة الضرورية لممارسة ما يسمَّى الرياضة النبيلة ذات الأصول البروتانية [بروتانيا: منطقة الشمال الغربي الفرنسي].
ولكن، لندع ليوم وداع بيليه. لم أنسَ أبداً تلك اللوحة الإعلانية الإلكترونية الضخمة في ملعبكم الهائل، والتي كانت تشتغل وتنطفئ من أجل تكرار الكلمات الأخيرة من خطاب البطل الزنجي: Love, Love, Love. ورغم أن كلَّ العالَم كان يرى بجلاء أن كلَّ شيء أُعِدَّ سلفاً وبِدقَّة، من كلمات وَمَّاضَةٍ وما تبقى، فإنَّنا وجدنا معلِّقاً تلفزيونياً يمتدح مَلَكَةَ بيليه في الارتجال.

جُونْ كِينْغْ: مصنع كرة القديم
لا تُوْلِي القنوات التلفزيونية أي أهمية تُذْكَرُ للمشجِّعين؛ فدون صخب، دون حركات وانفعالات المشجِّعين، لا يمكن لكرة القدم أن تكون شيئاً ذا بال. إنَّها قصة شغف. من دون شغف، تموت كرة القدم. سيتبقّى لنا فقط 22 وَلَداً يجرون وراء كرة في قطعة عشب. بصراحة، إذا اختُزِلَ الأمر هكذا، سيبدو في غاية البلاهة. فالناس من يَصنع الاحتفالات. تُدْرِكُهُم الْحُمَّى، لينطلق كل شيء. عندما يتملَّكك شغفٌ ما، كيفما كان هذا الشغف، فإنه يفيض. وهذا ما يحدث، أحياناً، مع كرة القدم. في آخر المطاف، هذا ما يحدث لي شخصياً. ليس بوسعهم عزل كرة القدم عمَّا يجري خارجَ العشب. قد يفرضون عليك أن تكون متيقظاً، محترِساً، تحت عدسات كاميرات المراقبة، ولكنك عندما تبتعد عنها قليلاً، يتبدد الوهم، وتَستأنِف الحياةُ حياتَها من جديد.

آلْفْرِدْ إِدْوَارْدْ هُوسْمَانْ: تِرْيَاق
يا لِهذه الكرة الدَّوَّارة
ولِلفتيان الذين يَقذفون بطيبة قلوبهم
العارضتين المستقيمتين، وحارسٌ
ها هنا للدفاع عن مرماه
لِمرَّتين في الأسبوع، طيلةَ فصل الشتاء،
كنتُ في مركز حارس المرمى هذا
لِروح الفتى العليلة، كرةُ القدم ترياقٌ شافٍ.
(من ديوان: «فتى من شْرُوپْشَايْرْ)

بيار بورغاد: هِيَ الْحَرْبُ
— لِمَ الحرب؟ صناعةٌ قويةٌ وكرةُ قدمٍ جيدةٌ: هذا ما يحتاج إليه البلد! هكذا واصل شوماخر كلامَه، وهو يضرب بقبضته على الطاولة. كان هتلر قد رأى الهدف فقط، دونَ الوسيلة.
أهميَّة كرة القدم بِأهمِّيَّة البلد. كرةُ القدم مواصلةٌ للحرب بوسائلَ أخرى. (من ديوان «كرةُ القدمِ هِيَ الحرب»)

أَلْبِيرْ كَامُو: درس وجوديّ
كل ما أعرف بشكل أكيد بخصوص القيم وواجبات البشر، أنا مَدين به لكرة القدم.
تعلَّمتُ سريعاً أن الكرة لا تأتينا أبداً مِنَ الجانب الذي خمَّنَّاه. نفعني هذا كثيراً في وجودي، خصوصاً في بلدي الأم حيثُ يُفْتَقَدُ الأحرارُ الشجعان. (من حوار صحافي مع الكاتب).

أمبيرتو إيكو: أحبها... أكره الشغوفين بها
لا شيء في قلبي يناهض كرة القدم. ولكنني لا أذهب إلى الملاعب، للسبب نفسه الذي لن يجعلني أبداً أذهب للنوم ليلاً في المعابر التحت أرضية للمحطة المركزية في ميلانو (أو أن أتمشى في المنتزه المركزي لنيويورك بعد السادسة مساءً)، ولكن يحدث لي أن أتفرج على مقابلة جميلة على التلفزيون، باهتمام ولذة لأنني أعترف بكل فضائل هذه اللعبة النبيلة وأثمِّنها.
لا أكره كرة القدم. أكره الشغوفين بها.
حاولوا استيعاب ما أقول. أحاسيسي تجاه الـ tifosi (مشجِّعو الكرة الطليان) مماثلة لأحاسيس مُحازِبي عُصبة «لُومْبَارْدْيَا» (تيّار فاشيّ محلي يتركز شمال إيطاليا) تُجاه المهاجرين من خارج أوروبا: «أنا لستُ عنصرياً، شريطة أن يبقوا في مكانهم». وأنا لا أقصد بمكانهم بيوتَهم، وإنما أماكن تجمعهم وسط الأسبوع (بار، أسرة، نادٍ) وملاعب يوم الأحد، التي لا يهمني مطلقاً ما يجري فيها، فلا يمكن أن يقع أسوأ مما لو قام الهوليغانز بالاجتياح، لأن مثل هذه الحوادث الطريفة تسليني عند قراءتها؛ وبما أنهما لعبتا سيرك [اللعب والتشجيع]، فحبذا لو انهرقت دماء غزيرة.
لا أحب الـ tifosi، لأن له طابعاً غريباً: لا يدرك لماذا لستَ، أنت، مشجِّعاً مثلَه؛ ومع ذلك يصر على محادثتك كما لو كنتَ كذلك. ولتفهموا ما أرمي إليه، سأضرب لكم مثلاً.
أنا أعزف على المزمار المُمَنْقَر، كلما تقدم بي العمر، كلما زاد عزفي رداءةً، إن شئنا تصديق التصريحات العلنية للُوتْشْيَانُو بِيرْيُو؛ وأنا سعيد لأنّ معلماً كبيراً يتتبّعني باهتمام بالغ.