اختارت لميا جريج عنوان «أزمنة ملتبسة» لثاني معارضها المنفردة، القائمة على كتابات ووثائق وأبحاث تغطّي الحقبة ما بين نهاية الإمبراطوريّة العثمانيّة ومطلع الانتدابَين الفرنسي والبريطاني في لبنان وسوريا وفلسطين (1914-1920). في التعريف بالمعرض المقام في «غاليري مرفأ» (بيروت) أنّ الشعور العارم بالقلق والشك السائد اليوم في منطقتنا، حرّك اهتمام الفنانة بالعودة إلى هذه المحطّة التاريخيّة المفصليّة، أي لحظة التصدّع وما حملته من «نشاط خلّاق». منذ البداية، كان عمل لميا جريج على الحروب اللبنانيّة ( 1975-1990) ومرحلة ما بعد الحرب في بيروت استهلالاً للتأمّل في التاريخ وسرديّاته المحتملة. ‏وفي مشروعها الفنيّ الثاني اليوم، توسّع الفنانة اللبنانية بحثها ليشمل فترة سابقة من التاريخ لا تربطنا بها تجارب مباشرة، إلّا أنّها تؤثّر رغم ذلك في حاضرنا.
«أزمنة ملتبسة» (مواد مختلفة على ورق ــ 2022 ــ تفصيل)

معرض شيّق، ‏مثير للاهتمام والإعجاب، لما يتضمّنه من وثائق تاريخية ورسوم لوجوه، فضلاً عن لوحات توثّق للمجاعة في الحرب العالمية الأولى ومرحلة الحكم العثماني ثم الانتداب الإنكليزي والفرنسي، مروراً بسفر برلك وموجة الجراد والمجازر… كأنّ الفنانة تستعيد تاريخاً يعيد نفسه باستمرار. المعرض في أيّ حال ليس تشكيليّاً محضاً بقدر ما هو توثيقيّ تاريخيّ من خلال الصور المؤلمة والمأساوية التي تعود إلى تلك الحقبة السوداء، مستخدمةً تقنيات وموادّ متنوّعة، فلميا جريج هي في الأصل كاتبة ومصوّرة وصانعة أفلام ورسّامة وباحثة ومنقّبة في الأرشيف. والوثائق والصور التي نراها في المعرض مؤلمة، حزينة، عميقة الدلالات. لا تخفي جريج شغفها برواية تاريخ المدن والأرياف والعائلات بتقنياتها ورؤاها المختلفة، ومن هنا ينشأ الاهتمام بقدرتها على جذب المتلقّي الذي لا يصيبه أدنى ملل لدى تجواله بين محتويات المعرض.
الجزء الأول من «أزمنة ملتبسة» يحمل عنواناً مكمّلاً هو «خريطة التحوّل» وهو عبارة عن تجهيز متعدّد الوسائط عرضته في «بينالي اسطنبول» في أيلول (سبتمبر) الفائت. ‏

من المعرض



وكما في أعمالها السابقة، تهب جريج دوراً أساسيّاً للتوليف البصريّ بين الرسوم والفوتوغرافيّات والوثائق التاريخيّة من الأرشيف، فضلاً عن تعليقات ونصوص خاصة بها. كما أنّها تعتمد مفهومين فنّيين:الأول متعلّق بالفنون البصريّة رسماً ونحتاً وأشكالاً تعبيريّة معاصرة، والثاني متّصل بفن ما بعد الحداثة الذي يوازن بين الممارسة الفنية والفكر، حتى إنّ الفكرة تحتلّ المساحة الأوسع من العمل.
وثائق وأبحاث تغطّي الحقبة ما بين نهاية الإمبراطوريّة العثمانيّة ومطلع الانتدابين الفرنسي والبريطاني في لبنان وسوريا وفلسطين


درست لميا جريج (مواليد بيروت عام 1972) الرسم وصناعة الأفلام في «معهد جزيرة رود الفني للتصميم» في روفيدس التي تقع في ولاية نيو إنغلاند شمال الولايات المتحدة. تخرجت عام 1995 وأنشأت لاحقاً بالتعاون مع ساندرا داغر «مركز بيروت للفن» الذي حاز شهرة عالمية على إثر حدث «المتحف كمحور» الذي أقيم في «متحف الفن الحديث» في نيويورك عام 2011. وفي السنة نفسها، اقتنى «متحف تيت» البريطانيّ المعاصر أحد أعمالها ليكون ضمن مجموعته الدائمة. أوّل معرض منفرد للميا في بيروت كان عام 1997 تحت عنوان «سطوح»، وتلته معارض عديدة بين فرنسا ومصر وألمانيا والولايات المتحدة. في جامعة هارفرد قدمت معرضها «بعد النهر» عام 2017 . إلى جانب اختصاصها الفنيّ، أصدرت كتابين: «هنا وربما في مكان آخر» (2003) و«الوقت والآخر» (2004). وتزامناً مع معرضها الحاليّ، تقدّم فيديو قصيراً بعنوان «شمس وبحر» من وحي قصائد الشاعرة والرسامة الراحلة إيتل عدنان.

* «أزمنة ملتبسة» للميا جريج: حتى كانون الأول (ديسمبر) المقبل ـــ «غاليري مرفأ» (بيروت) ـــ للاستعلام: 01/571636