يفترق أناشار بصبوص عن فنّ أبيه النحات الرائد ميشال بصبوص، وعمّيه ألفرد ويوسف في اتجاهه التعبيريّ، نحّاتاً نشأ في كنف العائلة الفنيّة المعروفة، لينحو بمنحى أكثر حداثةً ومعاصرةً، مبتعداً عن المناحي «التقليدية» و«الحجريّة» النصبيّة التي اشتهر بها أركان عائلته الثلاثة. هكذا، نراه قريباً من أساليب نحّاتين غربيّين كبار وروّاد حداثة أمثال النحات الإيطالي أرنالدو بومودورو، والأميركيّ سيمور ليبتون (خصوصاً منحوتته «نور أبديّ») والأميركي من أصل بولندي ثيودور روزاك، والأميركي الأشهر عالمياً هنري مور. لا يعني ذلك أنّه يقلّد أحداً من جميع هؤلاء أو يستلهمه بشكل مباشر. المقصود أنّه ينتمي إلى هذا الخطّ الحداثيّ، التجريديّ، المعاصر، ويداني اختياراتهم للموادّ التي ينحتون بها كالبرونز والفولاذ والبازلت والرخام، بعيداً عن الحجر الأبيض الصخريّ الذي غلب على أعمال آل بصبوص، أو عن الخشب. فالتطوّر في عالم المواد الصناعية أتاح اكتشاف مواد جديدة للتعبير في النحت، عن القوى المندفعة في فنوننا المعاصرة، فنحّاتو الاتجاه التجريديّ، أو اللاواقعيّة التجريديّة لجأوا إلى مواد جديدة تماماً مثل الألمنيوم.

دخلنا قبل فترة قريبة إلى محترف (متحف) أناشار بصبوص (راشانا، قضاء البترون ــ شمال لبنان) الجميل والخاص لنشاهد أعمالاً نحتيّة مبهرة بلغ عددها نحو خمسين أنجزها الفنّان الشاب ـــــ سليل العائلة الفنّية الرائدة في النحت اللبناني والعربيّ ـــــــ بين عامَي 2017 و 2022. وهي من الفولاذ المقاوم للصدأ والغرانيت والألمنيوم والستانلس والصخور البركانيّة والباطون الخام وسواها من المواد الحديثة، داخل فسحة يُضيئها مصدر النور الطبيعيّ المنهمر على المنحوتات من الواجهات الزجاجيّة للمحترف/ المتحف. وفي هذه القاعة الفسيحة غرف وأروقة ‏يحتضن كلّ منها عملاً متناغماً مع الزاوية المخصّصة له. أمّا أسفل هذه المساحة الفسيحة، فثمة فسحة أصغر تحتضن منحوتات متنوّعة الأحجام. والدخول إلى هذه الجنّة النحتيّة يتمّ عبر باب زجاجيّ ضخم يقودنا إلى عدد من الأدراج الإسمنتيّة العارية.
يقول أناشار بصبوص إن العمل النحتيّ مثل الموسيقى يحاكي الإحساس. ونضيف أنّ النحت يتفرّد، بين سائر الفنون التشكيليّة، بمتعة الإحساس باللمس، وخير مثال على ذلك منحوتة «الفهد الهندي» للنحات الإسباني غريغوريو هيرنانديز الذي انجذب إلى لمسه ألوف الأطفال والشبّان، لكونه مصنوعاً من الغرانيت الأسود اللمّاع. ‏الرغبة في اللمس يمليها فنّ النحت دون سواه، فلا نرغب مثلاً في لمس لوحة لدى النظر إليها أو التأمّل فيها. ويجذبنا أيضاً في النحت الإحساس بالتوازن، خصوصاً في النحت الحديث، فالأعمال الحديثة تهبنا إحساساً بالحركة التي تنقلنا بصريّاً وماديّاً إلى «فراغات» ومساحات تجريب إضافيّة، لأنّ فنّ النحت الحديث يتمتّع بقوّة اندفاعيّة خاصة.


أناشار ‏بصبوص، ابن قرية راشانا المفتوحة على فضاء مشعّ منير، تتجاور فيها المنحوتة مع الطبيعة الآسرة، فتتداخلان في مناخ يردّنا إلى الأسطورة. ‏ويطلّ أناشار على هذا المكان الذي نشأ في ربوعه بطريقة مختلفة عن عائلته الفنية، كأنّه هجر أساليبها بلا عودة لكي يتماهى مع الحداثة بما تنطوي عليه من مغامرات تجريبيّة شكلاً ومادةً ومضموناً، أي أنّه يغادر الاتجاه الكلاسيكي نحو التجريبيّ الحديث على نحو بيّن وحاسم. يتحرّك تجريده في كلّ الاتجاهات. هو وفيّ للإرث ومتمرّد عليه في الوقت عينه. يسعى إلى أفق إبداعيّ مفتوح، أبعد، وأكثر تنوعاً. هذا ما شاهدناه وعاينّاه في محترفه من رفض للماضي وقطيعة معه. وقلّما شهد العالم العربيّ تجربة نحتيّة مماثلة لصيقة بالحداثة والتجريب والإبهار وضخامة الأعمال وانتقاء الموادّ الجديدة.
قلّما شهد النحت العربيّ تجربة مميّزة‏، تجريبيّة خاصة، محاكية للحداثة وما بعدها، مثل تجربة أناشار بصبوص، إذ ربح مغامرة الاختلاف عن الإرث السابق، الخاصّ والعام، مبتكراً تجربته الفريدة. أعماله في هذا المكان المفتوح على النور الطبيعيّ لا الإضاءة الاصطناعيّة، وعلى الطبيعة الجميلة التي تنعم بها راشانا، ساعد جودت عرنوق في إبراز قيمتها «إخراجاً» وأفكاراً.


‏نحت أناشار «البيدر» من تاج «الرجمة» محافظاً على المساحة شكلاً وموقعاً نموذجيين. وظّف مادّته أو «موادّه» الخام لمنحوتاته التي تبدو في حالة عناق أو تحطّم. ومع ذلك، تبقى في حركة تناغم وتجاذب. الشكل التجريديّ لديه غير محدّد بالخطوط والألوان والأشكال، بل بالمعادلات القائمة بين العمل النحتيّ ومحيطه الطبيعيّ. مثلثات وأنصاف دوائر ومستطيلات تتحاذى تحت الضوء الخارجيّ المنعكس عليها.
تتجاور المنحوتة مع الطبيعة الآسرة، فتتداخلان في مناخ يردّنا إلى الأسطورة


‏يراوح أسلوب أناشار بين الشغف بالأشكال الهندسيّة تركيباً وبناءً، والحلم والمخيّلة، والصرامة المهنيّة، منجذباً إلى المادّة الملائمة لكل فكرة وشكل هندسيّ، ومعتمداً النحاس والألمنيوم والستنليس والبرونز، مانحاً إيّاها في بعض القطع لون الصدأ لتبدو معتّقة ومعرّضة لعوامل الزمن وتأثير العناصر الطبيعيّة. كأنّنا في هذه المساحة الممتدّة على ألف وأربعمئة متر مربع إزاء حديقة نباتات داخلية ذات واجهات زجاجية.
‏تلفتنا في هذا المحترف/ المتحف صورة لوالد أناشار النحات ميشال بصبوص ولوالدته الشاعرة تريز عوّاد بصبوص، كأنّ النحّات الشاب يبعث إلى والديه رسالة شكر ووفاء. إذ خصّص غرفة صغيرة في المكان لهما وضع على رفوفها وطاولتها كتباً، فضلاً عن منحوتة برونزية لوالده تعود إلى عام 1954. يخاطبنا أناشار بالقول: «لقد وهبني هذان الإنسانان كل شيء. صنعاني. والأهمّ أنّهما أحبّاني بشكل رهيب».