منذ أن أحرق البائع المتجوّل محمد البوعزيزي نفسه في مدينة سيدي بوزيد واندلاع الاحتجاجات التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي وامتدت عدواها إلى ليبيا ومصر وسوريا واليمن، لم يتوقّف الاهتمام الإعلامي والأكاديمي بـ «الباعة المتجولين» في تونس.آخر ما صدر في هذا السياق، كتاب جماعي لباحثين شباب عن «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بتونس» (منظمة مستقلة) بعنوان «سوق نهج إسبانيا أو منهاج الاقتصاد الشارعي في تونس: مقاربة سوسيو أنتروبولوجية».
الكتاب حرّره ونسّقه سفيان جاب الله الذي يقول عن سرّ اهتمامه بهذا المجال: «بعد إقامتنا لمدة ثلاث سنوات في شقة مطلة على شارع إسبانيا في وسط مدينة تونس، وبعد معايشتنا لكل تفاصيل اليوميات في هذا الفضاء الذي زيد إلى طبيعته التجارية المقننة سوق للتجارة غير النظامية، أُسرنا بمجموعة من الأسئلة حول هذا العالم الفريد الذي اختبرنا كل معالمه مواطناً مقيماً وحريفاً. ثم أردنا اختباره باعتبارنا باحثين في علم الاجتماع».
يتضمّن الكتاب مجموعة من الدراسات لباحثين في علم الاجتماع تناولت الحياة اليومية في هذا «السوق» اللانظامي الذي تكتظ فيه الحركة منذ ساعات الصباح الأولى وحتى حلول المساء في قلب العاصمة وعلى بعد خطوات من شارع الحبيب بورقيبة، أشهر شوارع تونس وقبلة السيّاح ومعظم المنتصبين في هذا الشارع الذي يحمل اسم إسبانيا إلى جانب السوق المركزي، مركز الحركة الاقتصادية في تونس قادمين من محافظتي سيدي بوزيد والقصرين الأكثر فقراً وتهميشاً، ومنهما انطلقت الاحتجاجات التي أسقطت نظام بن علي.
وتضمّن الكتاب إلى جانب الخرائط والإحصائيات عن تاريخ الفقر في تونس والاقتصاد الشارعي، تسعة محاور مع مقدمة عن تاريخ دراسات الاقتصاد الشارعي. المحور الأول هو «مداخل مكثّفة من أجل قراءة مغايرة لظاهرة الاقتصاد الشارعي بنهج إسبانيا»، فيما يقدّم الثاني «مقاربة تاريخية للنهج»، ويهتمّ المحور الثالث بخريطة المناطق الداخلية التي ينتمي إليها تجّار وباعة السوق. في المحور الرابع، قدّم العمل قراءة اجتماعية ــ تاريخية لمنطقة الوسط الغربي أو كما سماها الباحث خالد الطبابي «عوامل الطرد بالوسط الغربي» و«استمرارية ديناميكية التهميش».
الباحثون في هذا العمل السوسيو ــ أنتروبولوجي اهتموا أيضاً بعلم اجتماع العمل ومقاربة تشكيل الذكورات والمقاربة الأنتروبولوجية للاقتصاد الشارعي في تونس، كما بهشاشة الوضع الصحّي لباعة السوق وبعجز النصوص القانونية عن استيعاب الظواهر الاجتماعية.
وغاص الكتاب كذلك من خلال دراساته والأرقام التي تضمنّها في سوسيولوجيا الهامش. والمفارقة أنّ هذا «الهامش» يتوسّط قلب العاصمة التونسية ويجاور السوق المركزي وأشهر شوارع الحيّ الأوروبي الذي شيّد في زمن الاستعمار الفرنسي للبلاد.
ورغم أنّ «الثورة» اندلعت من احتجاج بائع متجوّل على التهميش، فإنّ 95 في المئة من المستجوبين في هذا الكتاب من باعة السوق يعتبرون أنّ الوضع اليوم أسوأ ممّا كان عليه الحال زمن بن علي.