انطفأت قبل أيام عائشة الشَّنَّا (1941-2022)، إحدى أبرز المناضلات والناشطات في حركة حقوق الإنسان في المغرب، إن لم تكن الأبرز. وُلِدَتْ في الدار البيضاء في 1941، ثمَّ مضت مع أهلها للعيش في مراكش، تَيَتَّمَتْ من جهة الأب وهي طفلة. تعود من جديد إلى كازابلانكا، لتدرُسَ في «معهدِ التَّمريض الطبّي»، ما أتاح لها ولوج ميدان العمل كمنشّطةٍ تربوية وصحيّة واجتماعية.كانت الانعطافة الرئيسة في حياة الراحلة تأسيسُها «جمعية التضامن النسوي» (Association Solidarité Féminine‏) في كازابلانكا عام 1985. منظمة غير ربحية تهتم بمساعدة الأمهات العازبات على اكتساب خبرات العمل من خلال مقاربةٍ تشاركيَّة اختارتها مؤسِّستها، بديلاً لما جرت عليه العادة، في مثل هذه الحالات، من مساعدة خيريَّة، فيها الكثير من التَّواكل. فالأمَّهات العازبات اللواتي يلجأن لخدمات هذه الجمعيَّة، يتمُّ إدماجهن مباشرةً في سوق العمل ودورة الإنتاج، للقطع مع مخاطر استغلالهنَّ جنسياً في الدعارة أو شبكات الرقيق وتهريب المخدرات، إذ يتمُّ تدريبهن في مطعم الجمعية على الطَّبخ وتقديم الوجبات، وفي مخبزة الجمعية على صنع الحلويات، وفي حمَّامِ الجمعية؛ ما يوفر لهنَ قوتَ عيش شريفاً وخدمات في عين المكانِ من مأكل ومشرب ونظافة.
في عام 2004، افتتحت مركزاً للياقة البدنية بالقرب من مركز الجمعية. ويعتمد دخلها أيضاً على التبرعات التي قدمها مانحون أسخياء أو على الأموال التي جلبتها الجوائز المتعددة التي فازت بها الجمعية. مُذَّاكَ صارَ مستحيلاً عزل سيرة عائشة الشَّنَّا عن مسار ومنجَزات هذه الجمعيَّةِ؛ وعكساً بعكس، لا يمكن ذكر هذه الجمعيَّة من دون أن يتبادر إلى ذهننا اسمُ الراحلة.
بحسِّها الاجتماعي القوي، اعتمدت عائشة الشَّنَّا، منذ بدايات التأسيس مقاربةً لامركزيَّة، تخدم أساساً ضحايا الهامش، أو ما يسمَّى، منذ أيام السياسة الاستعماريّة «المغرب غير النَّافع». مغرب الأطراف والمناطق النائيَّة المعوِزة جداً، ففي عام 1988، افتتح أول مركز للجمعية أبوابه في تيزي وسلي، وهي قرية أمازيغية شمال المغرب، تنتمي إلى إقليم تازة، شرقي مدينة فاس، وتضم بلدة تيزي وسلي حوالي عشرة آلاف نسمة.
جعلت «جمعية التضامن النسوي»، برئاسة الشنا، هدفَها الرَّئيسَ في منع التَّخلي عن الأطفال من خلال تأهيل أمهاتهم العازبات (اقتصادياً واجتماعياً). للقيام بذلك، وضعت الجمعية إستراتيجية في كانون الثاني (يناير) 2003 تلبّي خمسة أهداف محددة: التواصل، المرافقة، التكامل، التدريب، التطوير. ولتحقيق هذه الأهداف، أنشأت الجمعية «مركز دعم الأمهات المحتاجات» (CSMD)، وحضانات في كل موقع من مواقع التدريب الثلاثة التي تتوفر عليها. ويتمحور التدريب على الأشغال المدرة للدخل التي تمَّ توسيعها في العقد الأخير (المطاعم، محلات الحلويات، خدمة تقديم الطعام، ورشة الخياطة، الحمام، إدارة الكافتيريا، أكشاك البيع).
في 20 شباط (فبراير) 2015، وقّعت الشنا شراكة بين مؤسسة SMarT و«جمعية التضامن النسوي». سهّلت هذه الاتفاقية وصول الأمهات العازبات إلى مكان العمل ومساعدتهن على استعادة الثقة بالنفس كأمهات مسؤولات ومستقلات مالياً.
حصلت عائشة الشَّنَّا على «جائزة إليزابيث نورجالي» في عام 2005، وجائزة «أوبوس» Opus، وهي شبيهة لجائزة نوبل للمساعدات الإنسانية، وكذلك على «جائزة حقوق الإنسان للجمهورية الفرنسية» عام 1995. وفي عام 2000، نالت وسام الشرف للملك محمد السادس، بالإضافة إلى وسام برتبة فارس من جوقة الشرف للجمهورية الفرنسية في عام 2013.
تعرّضت لحملات شرسة من المحافظين والمتأسلمين


بفضل «جمعية التضامن النسوي»، وجهود الشنا الخاصَّة، سُمِحَ للأمهات والأطفال بإعادة الاندماج في أسرهم. كما أتاحت للأمهات العازبات وأطفالهن فرصة الاندماج في المجتمع مع الحفاظ على كرامتهم. بفضل عائشة الشنا، تمكن العديد من الأطفال الذين عاشوا طفولة صعبة، وعاشوا شبابهم في فقر، من الصعود في صفوف المجتمع، ليصبحوا رجال أعمال ومسؤولين كباراً وفنانين موهوبين. علماً أنّ عائشة الشّنَّا وثّقت مأساة الأمهات العازبات وأطفالهنَّ، والخادمات الصَّغيرات والأطفال المتخلَّى عنهم في كتاب شهادات حمل عنوان Miseria (بُؤْسٌ)، صدر عام 1996، عن «منشورات الفنك» في الدار البيضاء.
سلاماً لروح عائشة الشّنَّا الَّتي اشتغلتْ في ميدان ملغوم، في عالمنا العربي الإسلاميِّ، فكثيراً ما تمَّ التهجُّم عليها من صفوف حركات وجماعات المحافظين في المغرب، وعلى رأسهم الحركات المتأسلمة، الَّتي كانت تتَّهمها بتشجيع الفسق والفجور، في حين أنَّها كانت تؤمِّنُ للنساء والأطفال ملاذاً يقيهنَّ من أعرق مهنة مستعبِدة في تاريخ البشرية، منذ بداياتها وفي مآلاتها الحاليَّة.