كم مرّة زرنا العراقَ قبل أن نزورَه، كم مرَّة زرنا العراقَ مِن بُعد، وكان رغم بُعده الجغرافي قريباً كحبل وريد…
كم مرّة زرناه على متنِ قصيدةٍ وروايةٍ، أو معزوفةٍ وأغنيةٍ، أو مسرحية ولوحة تشكيلية…
كم زرناه من جلجامشَ حتى كربلاء،
ومن أول قيثارة حتى آخرِ الغناء،
ومن أول دمعة آخرِ البكاء.
وكم كانت قصائدُ مظفر النواب واحدةً من أبرزِ التأشيراتِ الإبداعيةِ التي أتاحتْ لنا السفرَ عبر أثير الكلمات من مسقطِ الرأسِ في جنوبِ لبنان، أو مسقط القلب في بيروت إلى مسقطِ إبداعه في بغداد التي كتبها الله بين النهرين قصيدة، والتي سجدت شاكرةً وقامت شهيدة.
برفقة مظفر النواب لم يكن السفرُ تيهاً، ولا الرحلةُ خبطَ عشواء، لم يكن الليلُ عتمةً ولا ظلاماً، كان صوتُهُ المشحونُ شجناً وغضباً ينسابُ من شريطِ الكاسيت ليضيءَ في الرأسِ ألفَ فكرةٍ وفكرة، ويضخَّ في القلبِ مزيداً من الشغفِ والحماسة، ويشيرَ إلى الجهةِ الصواب جنوبيَّ الجنوب.
لم يكن الجنوبُ(اللبناني) مجرّد جغرافيا،
كان نبضاً وجرحاً وحلماً بأنّ الآتي أجمل،
وكان صوتُ مظفر يعلو على أزيزِ الرصاصِ ودوي المدافعِ، يسعفُنا على احتمالِ همجيةِ الاحتلالِ الإسرائيلي، وقسوةِ الحروبِ الأهليةِ التي توهّمنا أنها معبر نحو وطنٍ حرٍّ سعيد،
كانت كلماتُهُ تؤجِّجُ فينا نيرانَ الغضبِ على حكوماتٍ وأنظمةٍ تتلكأ عن مواجهةِ العدوانِ أو تتواطأ معه، وتديرُ الظهرَ لفلسطينَ وعروسِ عروبتها.


كان مظفر رفيقَنا في الخنادقِ وخلفَ المتاريس، مثلما كان رفيقَنا في الملاجئ المسكونةِ بالقلقِ وعدمِ الأمان،
كانت قصائدُهُ تبعثُ الدفء في الغرفِ الرطبةِ المؤثثةِ بالضحكِ والدمع والأحلام في تلك المساءات التي تطول حتى تلامس عتبة الفجر، لا سيّما حين اكتشفنا وجهاً آخرَ لشاعرِنا الأثيرِ غيرَ وجهِ الثائرِ الغاضبِ المتمرد، اكتشفنا وجهَ العاشقِ الرقيقِ الحنونِ، وجهَ الحالمِ الشريدِ الباحثِ عن مساحةِ أمنٍ وطمأنينة، لم يجدْها حتى في القصيدة التي ظلّتْ عنده مِرجلاً شديدَ الغليانِ سواء أكانت قصيدةَ غضبٍ أو قصيدةَ شجن، كأنَّ حالَهُ حالُ جدِهِ القائلِ: على قلقٍ كأن الريحَ تحتي.
راح مظفر يمتطي الريحَ والأهوالَ ويشدُّ الرِّحالَ من بلدٍ إلى آخر، بحثاً عن وطنٍ يتّسعُ له ولأحلامه وأفكاره ولقصيدتِهِ التي لا تعرفُ حدوداً، ورحنا، من فرْط عشقِنا له ولقصائده، نمتطي أحصنةَ المخيلة، ونغوصُ في بحرِ المعنى محاولينَ فكَّ شيفراتِ اللهجةِ العراقيةِ المحببة باحثين عن معاني الرموزِ والمفرداتِ كي نفهمَ أكثرَ هذا الشاعرِ الاستثنائيِّ الذي أدركنا معه أن الدمعَ ليس شرطَ البكاء وأن الزرقةَ ليست سقفَ السماءِ.
مع مظفر كان الدمعُ حبراً والسماءُ ورقةً بيضاءَ يخطُّ عليها شموساً وأقماراً وبرقاً ورعوداً تفجِّرُ ينابيعَ الغضبِ والعصيان، وتُنبِتُ ورداً وأغنيات.
كثيرةٌ هي الأبوابُ التي يمكنُ الولوجُ منها إلى عالمِ مظفرِ الشاسعِ الواسعِ المليء بالدهشةِ واللُّقيّات، سواء في سيرتِهِ الأشبهَ بسيرةِ بطلٍ أسطوريٍّ، أو في قصيدتِهِ فصيحةً أو محكيةً، مازجاً بين جماليةٍ عاليةٍ وموقفٍ صريحٍ واضحٍ مباشرٍ من كلِّ ما يعيشه الإنسان في هذه البلاد المنذورةِ للنوائبِ والمِحنِ، المعلّقةِ على خشبةِ الصبرِ والانتظار، التي لم يبقَ منها ومنّا سوى الأحلامِ والآمالِ والحنينِ إلى تلك البداياتِ الرومانسيةِ المشوبة بالطُهرِ والبراءة، قبل أن تقضي وحوش الإرهاب والتكفير والمذهبيات والهويات القاتلة على ما لم تقوَ عليه قوى الاستعمار والاستغلال ولا أنظمة القهرِ والاستبداد.
كان صوتُه يعلو على أزيزِ الرصاصِ يسعفُنا على احتمالِ همجيةِ الاحتلالِ الإسرائيلي


كأنّ مظفر لم يكتب بالحبر، بل بالدمع والعرقِ والدمِ المتوارَثِ من كربلاء الحسين إلى الكربلاءات التي تعمُّ بلادَنا وأوطاننا، ولم يكتب بالقلمِ وعلى الورقةِ بل بالشرايينِ والأوردةِ على صفحاتِ روح حرّة طليقة محمَّلة بكلِّ ما عاشهُ واختبره من عذابات وأحزان وأشجان، وما آمن به من أحلام ورؤى وأفكار.
يرحل مظفر النواب جسداً، وتظلّ روحُهُ حرَّةً محلِّقةً تماماً مثل قصيدتِهِ التي لا تبحثُ عن وطنٍ لأن وطنَها وجدانُ كلِّ ثائرٍ، وكلِّ عاشقٍ، وكلِّ حالمٍ بأوطانٍ لا تضيقُ بأحلامِ بنيها، ولأنها(قصيدته) تأشيرة إبداعية لا تنتهي صلاحيتها، ولا يخفت وهجها برحيل شاعرها، ولا ينتهي مفعولها بتقادم الأيام.

(*) ألقيت في أربعينية الشاعر مظفر النواب التي أقامتها «دار بابل للثقافات والفنون» في بغداد (والنجف والحلّة).