رحل الكاتب الفرنسي مارسيل بروست قبل مئة عام (1871 ــــــ 1922) لكنه ترك لنا تحفة أدبية خالدة هي «بحثاً عن الزمن المفقود» التي صنّفها النقاد ضمن أعظم الروايات في القرن العشرين. هي من أطول الروايات، فقد بلغ عدد أجزائها سبعة، وفاق عدد كلماتها المليون. تتناول الرواية سيرة الراوي (تشبه كثيراً حياة مارسيل بروست) الذي يرغب بأن يصبح كاتباً مشهوراً. لكنّ هذا النداء الداخلي كان يواجه عوائق عديدة منها إغراءات الحياة الاجتماعية والحب والصداقة، رغم التشجيع المستمر الذي كان يلقاه من أصدقائه الفنانين، ليستهلّ مهنته في عالم الأدب. من خلال هذه الكاتدرائية الأدبية، حاول بروست القبض على الزمن المندثر الذي يفلت من بين أيدينا ولا نملك قدرة على إيقافه، كاشفاً لنا بأنّ الإبداع الفني وحده هو الذي يشفي من خيبات الحب وإخفاقات الحياة ومرارة الموت. الفن ــ وفقاً لبروست ـــ هو الوسيلة الوحيدة التي تُمكّننا من التقاط جوهر الزمن والتملّص من قوانينه الظالمة واستعادة اللحظات السعيدة الضائعة والحياة الحقيقية التي عشناها.
رأى بروست أنّ الفن هو الوسيلة الوحيدة التي تُمكّننا من التقاط جوهر الزمن

بروست كان شغوفاً بالموسيقى وضعها بمنزلة تفوق كل الفنون حتى الأدب. عندما كان شاباً، كان يتردّد إلى قاعات الحفلات الموسيقية والأوبرا. كانت هذه الأماكن الرئيسية في عصره، حيث يمكن للمرء الاستماع إلى الموسيقى لأنّ التسجيل الصوتي حينها كان في بداية ظهوره. قدَّمت الصالونات التي أقامتها سيدات المجتمع الباريسي، مكاناً لإجراء الاختبارات الموسيقية وسمحت للكاتب بلقاء الملحّنين والمؤدّين. كان بروست يرتاد هذه الصالونات ليُغذّي إلهامه الفني، وأحبَّ بشكل خاص موسيقى باخ وبيتهوفن وفاغنر. لقد ظل مرتبطاً بموسيقى بيتهوفن طوال حياته، وكان يقارن نفسه بالموسيقار الأصمّ الذي ألَّف أعذب السمفونيات رغم إعاقته الجسدية. بروست الذي عانى أيضاً من الربو ومن مشاكل صحية جمَّة طوال حياته، كان يكتب رواياته ومقالاته وهو طريح الفراش.
بالنسبة إلى بروست، الموسيقى مصدر لا ينضب للأحاسيس والعواطف. لذلك، ليس مستغرباً أن تحتل مكاناً أساسياً في عمله، خصوصاً في ما يتعلق بترجمة حياة الشخصيات الداخلية. نجد الموسيقى في كل مكان في رواية «بحثاً عن الزمن المفقود»: صوت الريح التي تهبّ على شاطئ بالبيك، ضحكة شارلو، أو حتى أصوات الشارع. لقد أعطى هذا الروائي الكبير في عمله الأدبي أهميةً كبيرةً للكلام المنطوق، فالخصائص الصوتية عنده كانت تعكس صفات الشخصيات وبواطنها. تتجلى الموسيقى أيضاً في النثر الشعري والجمل الإيقاعية ذات النفس الطويل التي لجأ إليها بروست غالباً والاستعارات الجميلة التي اختارها للتعبير عن مشهد ما أو فكرة معينة.
أما الموسيقى الأبرز في «بحثاً عن الزمن المفقود»، فهي بلا شك سوناتة فينتوي، لحن خيالي ابتدعه المؤلف وأطلق عليه اسم Sonate de Vinteuil. ظهرت هذه السوناتة في الجزء الأول من الرواية الذي حمل عنوان «جوار منزل سوان». حاول بروست من خلالها نقل فلسفته الفنيّة وإبراز تأثير الموسيقى على مشاعر وأحاسيس الراوي والشخصيات الرئيسية. خصّص بروست جزءاً كاملاً من مجلد الرواية الأول، لسرد قصة غرام شارل سوان بامرأة تدعى أوديت دو كريسي كانت تتردد إلى أحد الصالونات الباريسية. شارل سوان إنسان راقٍ ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، ذو معرفة واسعة بالأدب والفن، ويتمتع بذائقة فنيّة مرهفة. كان يمتلك منزلاً بالقرب من بيت العمة ليوني في كومبري، ويزور أهل الراوي من حين إلى آخر. لعب سوان دوراً كبيراً في تشكيل الوعي الأدبي والفني للراوي من خلال تشجيعه على مطالعة الكتب والذهاب لحضور المسرحيات.
عندما رأى شارل سوان أوديت للمرة الأولى في صالون آل فردوران، لم تثر إعجابه على الإطلاق، فأوديت سطحية مدّعية، فارغة وغير ذكيّة، وكثيراً ما تستخدم كلمات إنكليزية في حديثها بهدف تقليد الآخرين ومجاراة الموضة. لكن في ما بعد، عندما وجد سوان شبهاً كبيراً بينها وبين لوحة تجسد زيفورا ابنة جيثرو للرسام ساندرو بوتيتشيللي (1481)، بدأ بالتعلق بها عاطفياً، كما لو أن هذا التشابه الفني مع لوحة شهيرة أعاد خلقها وزاد من قيمتها في نظره.
في إحدى السهرات لدى مدام فردوران، عزف الموسيقي مقطوعة على البيانو والكمان. كان سوان قد استمع إليها قبل سنة وأعجبته بشدة، لكنه لم يستطع التعرف حينها إلى عنوانها ومؤلفها. عندما أنصت مجدداً إليها برفقة أوديت، أحسَّ بأنَّ روح هذه الموسيقى تنقله إلى عالم آخر مليء بالعطور والألوان و«تجعل نفسه تتفتّح كما روائح الورود المسافرة داخل هواء الليل الرطب». منذ تلك اللحظة الحاسمة، ربط شارل سوان بين موسيقى فينتوي وعلاقته العاطفية بأوديت. أصبحت تلك الجملة الموسيقية نشيداً رسمياً لحبهما وغالباً ما كان سوان يتخيل بأن فينتوي ألّفها خصيصاً له ولأوديت. المثير للسخرية أنّ هذه الموسيقى المدهشة أبدعها أستاذ بيانو مغمور كان شارل سوان يلتقيه لدى شقيقات جدته، وكان يجده تافهاً جداً. لم يدرك بطل الرواية أنّ هذه الألحان الشجيّة التي طالما رافقته هي من تأليف هذا الفنان الذي كان يزدريه دوماً.
عاش سوان مع أوديت علاقة عاصفة عانى فيها كثيراً، خصوصاً بسبب الغيرة التي كانت تنهشه عندما يشك في تصرفاتها أو حين تخرج بصحبة آخرين. لم يدرك حقيقة حبيبته المخادعة إلا بعد فوات الأوان. في ختام هذا الجزء من الرواية، يستمع سوان بالمصادفة في سهرة لدى مدام دوسانت أوفيرت مجدداً لمقطوعة فينتوي، فتثور مشاعره للذكرى ويستعيد الماضي الأليم وحبه المرير لأوديت: «وفجأة شعر كأنها دخلت، وقد جعله هذا التصور يحس بأنه يتمزّق من الألم، لدرجة أنه اضطر أن يضع يده على قلبه». كل ذكرياته عن الزمن الذي كانت تعشقه خلالها أوديت استيقظت من جديد لتغني له من دون رحمة سعادته المنسية، فتذكّر بشكل خاص أزهار الأقحوان التي كانت أوديت ترميها في عربته والرسائل التي كانت تكتبها له وتقول له فيها: «يدي ترتجف جداً وأنا أكتب لك». كل هذه الوقائع، التي أعادتها الموسيقى، أثارت أحزانه وضاعفت من شعوره بالغربة لأنه أدرك أنَّه لم يستطع امتلاك أوديت وأنّ هذا الحب الكبير كان محض أوهام. على الرغم من تبدّل مشاعره مع الوقت، يتزوج سوان من أوديت لكي يؤمن مستقبل ابنتهما جيلبرت ويثير زواجهما ضجة في كومبري بسبب انتمائهما إلى طبقتين اجتماعيّتين متفاوتتين. الندم الذي أحسّه سوان من جراء هذه العلاقة، عبَّر عنه في مقطع شهير من الرواية «من يصدق أنني أهدرت سنوات طويلة من حياتي وأنني أردت أن أموت، وأنني شعرت بأكبر حب تجاه امرأة لم تكن تعجبني، ولم تكن من نوعي؟ ليست لي!».
أبرز تأثير الموسيقى على مشاعر وأحاسيس الراوي والشخصيات الرئيسية


هذه التجربة الحسيَّة التي عاشها شارل سوان بسبب سوناتة فينتوي، تشبه إلى حد بعيد تجربة الراوي (أو بروست) مع كعكة المادلين الشهيرة. حين تذوق الراوي الشاب قطعة المادلين مع الشاي، تذكر بشكل لا إرادي طفولته السعيدة في مدينة كومبري، حين كانت العمة ليوني تقدّم له هذه الحلوى في الإجازات الصيفية التي كان يقضيها في منزلها. طعم المادلين، بعد كل تلك السنين، أخرج كل ذكريات الطفولة من فنجان الشاي وأعاد الراوي سنوات عديدة إلى الوراء. فها هو يتذكر كومبيري وبيوتها وحدائقها ونباتاتها والليالي التي كان ينتظر فيها أمه لكي تعطيه قبلة ما قبل النوم. لا شك في أنّ قطعة المادلين وموسيقى فينتوي متشابهتان من ناحية أنهما لعبتا دور المُنَشط الحسّي للذاكرة الهامدة، مثل شرارة صغيرة تُشعل ناراً وتؤدي إلى استرجاع الماضي بكل عبيره ومذاقاته اللذيذة. على الرغم من أن رواية بروست كانت تعكس حياة المجتمع الفرنسي في عصره، ولكنّ النقاد لم يستطيعوا نسب موسيقى فينتوي إلى لمؤلف محدد، فبقيت لغزاً من الألغاز البروستية. ويُعتقد أن بروست اعتمد على ألحان عدة موسيقيين لاختراع هذه الموسيقى الخيالية، ويُرجح أنه استلهمها من مقطوعات فاغنر أو كاميّ سانت ساينز.
لا مناص من القول بأنّ الموسيقى لعبت دوراً بارزاً في رواية «بحثاً عن الزمن المفقود» ونقلت رؤية بروست الخاصة إلى العالم التي تتمحور دائماً حول عذوبة الماضي وسعادته والحنين إليه مقارنة بالحاضر الذي لا يُحتمل. هذه الفكرة حاول بروست إنضاجها على امتداد صفحات الرواية. الموسيقى بنظر بروست هي إذن وسيلة لإيقاظ حواسّنا بُغية السعي خلف الماضي واسترداد ما يمكن للذاكرة أن تمنحه لنا بعدما فقدناه إلى الأبد بسبب مرور الزمن الذي يجري سريعاً كالحلم ويقضي بمروره على كل شيء جميل في حياتنا.