لعلّ عودتنا بالذاكرة عامين إلى الوراء باتت كمن ينظر إلى ماضٍ مغرقٍ في القِدَم، لثقل أيّامهما ووطأة أحداثهما -على قلّتها- وتمحورها جميعاً حول عنوانٍ عريضٍ هو الوباء الذي ترك بصمةً ما على حياة كلٍّ منّا، حتى بات العمر واقفاً على أطلال ما قبل كوفيد، متطلّعاً إلى ما بعد كوفيد. كانت فترات الإغلاق العام التي شهدتها أغلب بلدان العالم، وما فرضته من حظرٍ للتجوال وتقييدٍ للحريات بمثابة خلوةٍ لكلٍّ منا مع نفسه، وفرصةً لطرح باقةٍ من الأسئلة الوجودية: هل أنا سعيدٌ حيث أنا الآن؟ هل توصلتُ إلى علّةِ وجودي على هذا الكوكب؟ هل أنا مستعدٌّ لترك العالم هذه اللحظة، أم أنّ مهمّتي لم تنقضِ بعد؟! ولنا أن نتخيل العدد اللامتناهي من احتمالات الإجابات، التي انحصرت لدى البعض بإبقائها دوّامةً وسط حلقةٍ مُفرغة، ونجح البعض الآخر بترجمتها إلى فعلٍ تغييريٍّ لسكّةِ العمر.
وما الحكاية التالية سوى إحدى قصص النجاح العديدة التي استحقّت الإضاءة عليها. هي قصَّة حاجةٍ وحلمٍ وأملٍ وإيمانٍ بالقدرة على إحراز فرقٍ وبأحقّيّة النجاح. نثرت ظروفُ الحياة بذورَ هذه الحكاية على مسافة آلاف الأميال من بعضها، وما هي إلا مسألة وقتٍ حتى تنبثق أولى خيوط الحكاية وتلتقي وتتشابك، وتنبت شتلةً فنبتةً فشجيرة فشجرة.
عادل الديري، وباسل أسعد، وفراس كبيدات، وشادي رزق، مجموعةٌ من الشباب الشغوف بالثقافة والمعرفة، نظر كلٌّ منهم حوله يوماً، فلم يجدْ له أنيساً في عالمٍ ما عاد يشبه كينونته الفكريَّة ‏والشعوريَّة التي نَحَتَها كلٌّ منهم على صورته ووفقاً لتجاربه ماضياً وحاضراً وتطلعاته مستقبلاً. حاول كلٌّ منهم التعبير عن شخصيته المتفرّدة، فاصطدم برقيبٍ خارجيٍّ يفرض شروطَه وشروطَه وحدَه على كلّ من خطا في ملعبه، ناهيك بحزمةٍ من الاعتبارات التي يتعيّن أخذها في الحسبان ويصونها كلٌّ من الرقيبين الخارجي والداخلي، راكمَتْها الأيّام وخصوصيّة المجتمعات المختلفة التي نشأ كلٌّ منهم أو انتقل للعيش فيها.
هي حكاية كلِّ مُفكِّرٍ ومثقَّفٍ وكاتبٍ وفنّانٍ وباحثٍ جمعتهم لغة الضاد في زمن السرعة والتكنولوجيا والاستهلاك وانحلال القِيَمِ وتردّي المعايير. «قصَّتنا كُتِبت منذ زمنٍ بعيد» يقولون، «بقلم ميخائيل نعيمه، في «كتاب مِرْداد»: «لسوف تمرّ بكم أيّامٌ، تُظلم فيها طرقكم، وتبدو لكم مُقفرةً مِنَ الرِّفاق، منيعةً على ‏الأقدام. تشدّدوا، ولا تلتوِيَنَّ لكم إرادةٌ، وثابروا على السَّير. وخلف كلّ عطفةٍ في ‏الطَّريق، ستجدون رفيقاً جديداً».
«الحاجة أمُّ الاختراع...» يقولون أيضاً، «فإن لم يكن هناك من فضاءٍ يلبّي تطلّعاتنا ويروي ظمأنا في مجالات العلم والأدب والفلسفة والفنّ وتطوير الذات، فلنصنع واحداً يكون القدوة والمثال، نتوجهُ به إلى كل الشَّرائح العُمريَّة والمستويات الثقافية في المجتمع الناطق باللغة العربيَّة؛ فيغني فكرهم، ‏ويملأ وقتهم بالمتعة والفائِدة، يشجِّعهم على العبور إلى مُستوياتٍ أعلى مِنَ المعرفة، ويُشبع لديهم الحسّ النقدي البَنّاء».
لن يعدم الرفاق، الذين باعدت بينهم المسافات وقرّبتهم الحاجَة والفكرة، الوسيلةَ لبناء وتطوير منصّة تدوينٍ وقراءةٍ وكتابةٍ موجّهةٍ للنخبة المثقفة لتكون بمثابة فضاءٍ حرٍّ للتعبير ومشاركة الأفكار. لا بد لهذا المشروع الوليد من اسمٍ يُعبّر عن جوهره، فهل من اسم أبلغ من درّة مُلهمهم ميخائيل نعيمه، «مِرْداد»؟!، ولن تبخل عليهم السيدة سهى نعيمه بموافقتها التي تخطّت التشجيع والدعم لتنضم إليهم مستَشارةً أدبيَّةً وعضواً في مجلس الأمناء.
«في نهاية 2020، وفيما العالم يستعد لتوديع ذلك العام المصيريّ غير المأسوف عليه، كانت منصّة «مِرْداد» على شفى ضغطة زر، كجنين اكتملت أعضاؤه ونفد صبره انتظاراً على أعتاب عنق الرحم، فيما العالم في الخارج يعج بالاحتمالات والمفاجآت. وفي الساعة صفر من اليوم الأول للعام 2021، أبصرت منصّة «مِرْداد» النور، وكانت كمكّوك فضاء حمّلناه أطناناً من الأهدافِ والآمالِ والأمنيات، ليس لأنه كان قادراً على حملها منذ انطلاقته الأولى، وإنما لأنّ واقعنا الثقافي تطلّب التحرك سريعاً وبالطاقة القصوى منذ اللحظات الأولى».
وُلِدت إذاً «مِرْداد» مِنصَّةَ تَواصُلٍ اجتِماعيٍّ مُخصَّصةٌ للثَّقافة والفنّ والعلم والأدب، طمح مؤسسوها لأن تصبح رفيق دربٍ لِكلِّ باحثٍ عَنِ المعرفة، يرفده بالمصادر، ويساعده في إنضاج فكرته، والتعبير عَنْها بحرِّيَّةٍ. لا يخفى جهد الفريق لتقديم محتوى غنيّ بالرُّؤى المعاصرة التي تحمل روح المجتمعات النّاطقة بالعربيَّة على تنوُّعها، من دون أن تُغفل تظهير صورةٍ أوضحَ للهُويَّة ‏الفرديَّة وللمحيط الشَّخصيّ والمجتمعيّ في ذهن القارئ.
«عملياً، كنّا قد وضعنا يوم انطلقنا هدفاً نصب أعيننا بأنّنا سنُقنع ما معدّله شخصاً كلّ يومٍ بأن يكتبوا معنا خلال العام التجريبي 2021، أي 364 شخصاً وحوالي 4000 مادّة، وسنسهم في إيصال هذه المواد إلى 200 ألف قارئٍ على الأقل. كما آلينا على أنفسنا التركيز على التخلّص من أي إشكالات تقنية، تلك المفاجآت السيئة التي ترافق تطوير البرامج كما ترافق آلام بزوغ الأسنان الأطفال في أول انطلاقتهم. قبيل انطلاق المنصّة، كنا قد راسلنا بعض الأصدقاء من معارفنا المباشرين كي نجمع أكبر قدرٍ من المحتوى المتميّز لانطلاقة المنصة. أردنا لهذا المحتوى الصفريّ أن يكون لمرداد بمثابة العلامة المفتاحيّة لأي مقطوعةٍ موسيقية، فيعمل عمل المثال المعياري لنوع المحتوى الذي نتمنى أن ننشره. لكنّنا فوجئنا بفيضٍ أوسع وأغزر ممّا توقعنا، وشرعت المقالات والقصائد والخواطر والمواد البصريّة تتوالى على المنصّة من كلّ حدبٍ وصوب».
ماذا أظهر جرد دفاتر العام 2021؟ «بدل 364 كاتباً، انضمّ إلى أسرة «مرداد» ما يزيد عن 1200 كاتبٍ، قدَموا أكثر من 4100 مقال تمّت قراءتها 500 ألف مرة ـــ من دون أخذ تكرار القراءة في الحسبان ـــ من قبل 100 ألف متصفّح. أما تقنياً، فلم نكتفِ بتصفية الإشكالات البدئية، بل تقدّمنا إلى مربّع التطوير، فأطلقنا واجهة التحرير المبسّطة، وخاصية الحفظ التلقائي، وخاصّية النشر كناشرٍ مجهول، وإمكانية إخفاء كتابات كاتبٍ معيّن لا تريد أن تقرأ له، وتسريع عمليّة تحميل الصفحة حتى في البلاد التي مُنيت ببطء الانترنت».
تتوزّع الموضوعات في منصّة «مِرْداد» على المحاور التالية: شعرٌ ونثر، قصصٌ وروايات، كتب وكتّاب، فنونٌ تشكيليَّة، معارضٌ ولوحات، نقدٌ وتاريخٌ فنّي، إنسانيّات، مجتمع وقضايا، تجارب شخصيّة، تطوير الذات، ثقافةٌ صحيَّة، فلسفة، قضايا الطفولة. «لعل أكثر ما أسعدنا هم أولئك الذين لم ينشروا سابقاً وشرعوا بالكتابة والنشر مع «مِرْداد»، أو ممن كان ينشر على منصّاتٍ غير محترفة كفايسبوك، ووجد في «مِرْداد» المنصّة المحترفة التي تُقدّم بيئةً ثقافيةً أكثر ارتباطاً به وببيئته، أولئك هم من أثبتوا فعالية السبب المحوري للمنصة، ألا وهو تشجيع الإبداع والنشر، كما سُعدنا بمن وجد في المنصة أداةً فعّالةً لتنسيق وتوثيق أعماله كما فعل الفنّان والنّاقد التشكيلي الكبير عبود سلمان الذي تخطّت مشاركاته 800 مادّة. وأخيراً نحتفل اليوم بإطلاق شراكتنا مع منصة «قَلَم» التي تدعم «مِرْداد» اليوم بالتصحيحات اللّغويّة الإملائيّة والنحويّة والتنقيطيّة باستخدام الذكاء الصنعي».
لَكَم ساءنا ابتعاد أقراننا عن القراءة، وابتعادهم، إن قرؤوا، عن القراءة بلغتهم العربيّة الأم، ولَكَم ساءنا فقر الفضاء الالكتروني بمحتوى عربيٍّ ذي قيمةٍ فكريّة، بعيداً عن الابتذال والرسائل الدعائيّة الموجّهة ذات البُعد الاستهلاكيّ البحت، ولَكَم اعترانا يأسٌ وشعورٌ بالوحدة وشبه قناعة أنّنا ما عدنا نشبه محيطنا بشيء، وأنّ من يشاطروننا الاهتمامات ويوازوننا سويّةً فكريّة، باتوا قلّةً مبعثرةً في الشتات، ولَكَم افتقدنا إلى من يحفّز فينا ما كمُن من إبداعٍ راقدٍ بفعل تسارع عجلة الحياة اليوميّة والمهْنيّة التي ما عادت تتلاقى بالضرورة مع مواضع شغفِنا، إلى أن أبصرت منصّة «مِرْداد» النور، فردّت لنا أملاً خبا وأثْرت فكرنا وحواسنا بكلّ ذي قيمة، وقرّبت المتباعدين من ذوي الكفاءات الثقافية ووصلت بينهم بخيوطٍ متينة، وكانت لهم منصّة تعبيرٍ لا حدود لسمائها.
لَكَم تهكّمنا على من دأب على مواساتنا بأنّ هناك بصيص ضوءٍ في آخر النّفق، إلى أن تبيّنّا أنّ «مِرْداد» هي ما كنّا ننتظره، وكأنّ الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي كان الحاضر الغائب في إحدى جلسات العصف الذهنيّ لأسرة «مِرْداد» حين جاء في قصيدته «لمن نغنّي؟!»: «وُلدت هنا كلماتنا/ وُلدت هنا في اللّيل يا عود الذرة/ يا نجمةً مسجونةً في خيط ماء/ يا ثدي أمٍّ لم يعد فيه لبن/ يا أيّها الذي ما زال عند العاشرة/ لكنّ عينيه تجوّلتا كثيراً في الزمن/ يا أيّها الانسان في الريف البعيد/ يا من يصمُّ السّمع عن كلماتنا/ أدعوكَ أن تمشي على كلماتنا بالعين، لو صادفتها/ كيلا تموتَ على الورق/ أسْقِط عليها قطرتين من العَرَق/ كيلا تموت/ فالصوتُ إن لم يلق أذناً، ضاع في صمت الأفق»
https://mirdad.app