سَفَري طويلٌ، والطفولةُ مَرجِعيمهما كَبُرتُ.. ستَصغُرُ الدُّنيا معي
وبكلِّ عُنوانٍ رفَضْتُ دروبَهُ
سأزيدُ مِنْ رَفْضي.. وأرفعُ إصبَعي.
■ ■ ■
ما زلتُ ذاكَ الطفلَ يُخرجُ رأسَهُ
من هُوّةِ الشُّبَّاكِ... ما لم يُمنَعِ
طفلٌ يُجَرِّدُ صوتَهُ مِلْءَ المَدى
ويرى بكلّ كيانِهِ …ما يدّعي !
ما زلتُ أشربُ مِنْ عيونِ الماءِ في
كلِّ القُرَى… وخريرُها في مَسْمَعي
ما زلتُ أرجو منْ عصَافيري إذا
شَعَرَتْ بِخوفٍ ، أنْ تُغادِرَ مَرْبَعي
ما زلتُ للمُحتاجِ أطلبُ رِزقةً
موفورةً... من غيرِ مَدِّ الأذرُعِ
ولِبَعْلَبَكَّ دليلُها في هَيْأتي
جاهُ الممالكِ مِنْ جهاتٍ أربَعِ
ولِنِسْوَةِ التنُّورِ أنْ يُعطينني
ذاكَ الرّغيفَ السُّخْنَ:هذا مَطمَعي
ما زلتُ أسألُ جَدّتي عن طُولِها
وأموتُ مِنْ قَهري إذا لم تَسْمَعِ
وعيون جَدّي الزُّرْقُ تقرأُ لَذّةً
«نهجَ البلاغةِ» بالخَيَال الأوسَعِ
ما زلتُ أنظُرُ بطْنَ أُمّي حاملاً
رَتْلاً منَ الأولادِ.. دونَ تَمَنُّعِ
وأبي يراقبُ مُشتَهَى صِبيانِهِ
مُسْتوثِقاً جدّاً بطِيْبِ المَقْلَعِ
والأُخوةُ المُتَدَفّقونَ كأنهمْ
حرَسُ الحدودِ ببيتِ عِزٍّ أَلْمَعي
■ ■ ■
ما زلتُ في فَرَحٍ أَقودُ يَدِي إلى
جَيْبي... فآكُلُ مِنْ زَبيبٍ مُشْبِعِ
وتضيقُ مدرسةٌ... ويكبرُ ملعبٌ
فإذا الصغارُ إلى الهروبِ المُشْرَعِ
ما زلتُ أشرُدُ في الطبيعةِ راقصاً
أنّي أُخبّيءُ شاعراً ..في أضلُعي
وأُردّدُ الألحانَ مَفتوناً بها
مُتسائلاً... وأنا متى لَحني أَعِي؟
ما زالتِ الأشجارُ تسكنُ ضِحْكتي
وغُصُونُها تبكي هوىً... مِنْ أدمُعي
وعرفتُ كيفَ الوردُ يُرسلُ عِطرَهُ
حتّى إلى الفجرِ الذي لم يَطْلَعِ
ما زالتِ الأنهارُ تسرقني إلى
الوادي فأجعلُهَا «موسيقى» مَضجعي
وأعُدُّ أجنحةَ النجومِ وأقتفي
ما دَلَّ عن قَمَرٍ حزينٍ مُوجَعِ
ما زالتِ السُّحُبُ العظيمةُ تنحني
لأَصوغَ أحلامي ببَرقٍ طَيِّعِ
وأُنيرُ قلبي كي أُوَزِّعَهُ على
ضُعفاء تاهوا في فراغٍ مُفزِعِ
ما زالتِ الكتُبُ التي غَيّبْتُها
تَسطو على صَحْوي وتَقلِبُ مخدَعي
ومَنَحْتُ ذاكرتي فضاءً ماتِعاً
أشقى بهِ مَعْ كلِّ شَقْوَةِ مُبدِعِ
لا الأربعونَ ولا غَدُ السّتينَ، لي
شأنٌ بهِ … فالطفلُ حَدَّدَ موقعي.
■ ■ ■
سَفَري طويلٌ، والحياةُ كَذُوبَةٌ
لكنني ما زلتُ عندَ المَطْلَعِ
فإذا حَزِنْتُ... فَضِدّ كَهْلٍ صِرْتُهُ
فالطّفلُ في مَنْأىً بعيدٍ أرْفَعِ
هوَ فوقَ ناصيةِ الزمان أميرُها
وهو آبْن ساعتِها أمامَ الرُّضَّعِ
لكنّهُ دوماً يحَذّرُني بأَنْ
فوقَ الدفاترِ سوفَ يَحْدُثُ مَصْرعي.