قبل ستّة أشهر تقريباً، طُردت الصحافية إميلي وايلدر من عملها في وكالة «أسوشييتد برس» بعدما انتقدت على حساباتها الافتراضية طريقة تعاطي وسائل الإعلام مع الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيّين في حي الشيخ جرّاح في القدس. ليست وايلدر الضحية الأولى ولا الأخيرة لسلوكيات الإعلام في ما يسمّى «ديموقراطيات غربيّة». الحريّة بالنسبة إليهم تتوقف عند أعتاب إسرائيل، وأي شخص يوجّه إليها نقداً أو يناصر القضية الفلسطينيّة، ستُرفع في وجهه تهمة معاداة الساميّة. نتذكّر أيضاً هنا الصحافية الألمانية الفلسطينية نعمة الحسن التي نُشرت لها صورة على السوشال ميديا خلال مشاركتها في إحدى التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية عام 2014 ما أدّى إلى تطيير العقد الموقّع بين المحاورة وتلفزيون القناة الألمانية (WDR). كان ذلك في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، حين ضجّت المواقع الألمانية بخبر تجميد ظهور الحسن على الشاشة بسبب مشاركتها في إحدى التظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية في برلين، بدعوى تخلّل التظاهرة «شعارات مناهضة لإسرائيل ومعادية للسامية»، وفق بيان القناة آنذاك. يومها كانت الإعلامية تستعدّ لتقديم برنامج علمي على الشاشة الألمانية، ولكن في اللحظات الأخيرة ذهب المشروع أدراج الريح.وهذا ما حصل أخيراً مع الإعلامي باسل العريضي وزملاء له جُمّد عملهم في القسم العربي في قناة «دويتشه فيله» (DW) الألمانية الناطقة بالعربية. صباح الثلاثاء الماضي، نشرت صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» الألمانية، مقالاً «اتهمت» فيه مجموعة من الإعلاميّين، من بينهم خمسة عرب، يعملون في قناة «دويتشه فيله» (DW) الألمانية الناطقة بالعربية بـ «معاداة السامية». وكشفت الجريدة أسماء صحافيّين يعمل بعضهم في الموقع الإلكتروني للمحطة، وآخرون في القناة، وآخرون متعاقدون معها في مجال التدريب الإعلامي، موجّهة إليهم اتّهامات، بالاستناد إلى تعليقات كتبوها على صفحات السوشال ميديا، إضافة إلى مقالات قديمة نُشرت لهم على صفحاتهم الافتراضية أو في صحف عربية تعود إلى أعوام سابقة (يعود بعضها للعام 2000)، وصنّفت تلك المواضيع ضمن خانة «معاداة السامية».
الصحافيون العرب هم: مدير مكتب بيروت لقناة «دويتشه فيله» باسل العريضي، وداوود ابراهيم، ومرهف محمود، ومرام مرقة (مرام شحاتيت)، وفرح سالم. ونبش تقرير الصحيفة تغريدة قديمة (المفاجئ أنها محذوفة عن صفحته) للعريضي تعود إلى عام 2014، يردّ فيها على أحد التعليقات قائلاً «إن كل من يتعامل مع الإسرائيليّين خائن ويجب إعدامه». كما عاد التقرير إلى الهاشتاغ التضامني مع العريضي الذي كان يعمل في قناة «الجديد» وتعرّضه للإصابة (مع مجموعة من زملائه) خلال تغطيته للعدوان الإسرائيلي على لبنان 2006. من جانبه، ذكر التقرير أن الصحافي داوود ابراهيم الذي لا يعمل في القناة، بل يشارك في دورات إعلامية تنظّمها «دويتشه فيله» في بيروت، غرّد في إحدى المرّات معرباً عن رأيه بالمحرقة اليهودية.
أما مرهف محمود، فقد نكش تقرير الصحيفة الألمانية تعليقاً له كتبه عام 2017، متحدّثاً عن قيام الإسرائيليّين بغسل عقول الناس من خلال الأعمال الفنية. تكرّ سبحة الصحافيين المتهمين بـ «معاداة السامية»، ووصل التقرير في «زود دويتشه تسايتونغ» إلى فرح سالم التي كانت تعمل في القسم العربي في القناة، مستنداً إلى مقال كتبته تهاجم فيه «داعش». أما مرام فتعتبر جديدة في القناة وتم نبش تعليقات قديمة لها صنّفت ضمن خانة «معاداة السامية» أيضاً.
لم يمرّ تقرير الصحيفة بهدوء، بل أحدث ضجة في الأوساط الإعلامية الألمانية، على اعتبار أن «معاداة السامية» مسألة دقيقة في ألمانيا، مما دفع القائمين على «دويتشه فيله» (DW) إلى اتخاذ قرار نهار الخميس الماضي بتجميد عمل الصحافيين الخمسة. بناءً عليه، قرّرت المحطة تشكيل لجنة تحقيق في القضية، تألّفت من شخصين هما، وزيرة العدل الألمانية السابقة زابينه لويتهويزر شنارنبرغر، والاختصاصي النفسي الفلسطيني أحمد منصور المعروف بمؤلفاته عن نبذ العنف!
في هذا الإطار، تلفت المعلومات لـ «الأخبار» إلى أنه سبق أن تعرّض القسم العربي في «دويتشه فيله» لمشاكل عدة، إحداها تتعلق بقضايا تحرش قبل عامين، وأخرى لها علاقة ببعض المواقف السياسية للموظفين. لكن كانت المسألة تُحلّ داخلياً من خلال تشكيل لجنة (من إعلاميين، ومسؤولين...) يعملون ضمن إدارة التلفزيون تتولى معالجة المسألة. ولكن في قضية «معاداة السامية» الجديدة، تمّ تشكيل لجنة للمرة الأولى من خارج التلفزيون، للدلالة على أنّ «موضوع «معاداة السامية» لم يعد شأناً داخلياً، بل تحوّل إلى قضية قد تتطور لاحقاً». على أن تبدأ اللجنة خلال الأيام القليلة المقبلة عقد اجتماعات وجمع الملفات والأدلة. وعليه، تم تجميد عمل الإعلاميين «المتهمين» لحين صدور قرار اللجنة المتوقع بعد أسابيع من الآن.
على الضفة نفسها، تلفت المعلومات إلى أن الأداء الإعلامي لـ «دويتشه فيله» العربية منذ تأسيسها كان رمادياً دائماً في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية. وتصف المحطة نفسها بأنها «محايدة»، بينما ترفع شعارات الحرية في القضايا الأخرى. لهذا السبب لم تحقّق نسبة مشاهدة في العالم العربي، وبقيت على هامش القنوات الناطقة بالعربية. وفي السنوات الأخيرة، حاولت مخاطبة المشاهد الإعلامي عبر برامج اجتماعية ترفع شعار الحرية والمساواة من بينها برنامج «جعفر توك» الذي يقدمه جعفر عبدالكريم وفتحت عام 2019 مكتباً لها في بيروت عيّنت فيه باسل العريضي مديراً له. وتوضح المعلومات بأن إحدى وسائل الإعلام الألمانية أجرت مقابلة مع كاتب المقال في صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» الألمانية، وسألته عن مصدر معلوماته، ليجيب الصحافي بأن رسالة وصلته عبارة عن «سكرين شوت» تتضمن التغريدات والمقالات القديمة لكل صحافي!
إلى جانب الخطّ الأحمر المتمثّل في عدم انتقاد إسرائيل حتى على حسابات الإعلاميّين الشخصيّة، يبدو أنّ هناك «بيغ براذر» يراقب الفضاء الافتراضي ويكتب التقارير ويحاكِم... أما «حقوق الإنسان، وحرية التعبير والرأي والديموقراطية»، فهي شعارات لضرورات التسويق ليس إلا!