الرباط | لعلّها المرة الأولى التي تُخيّم فيها ظلال أعمال الفوتوغرافي الفرنسي الشهير هنري كارتييه بروسون (1908-2004) على أفريقيا من خلال فضاء «متحف محمّد السادس للفنّ الحديث والمعاصر» في الرباط. إذْ يتضمّن المعرض الاستعادي الذي يستمرّ حتى 21 شباط (فبراير)، أكثر من 130 صورة فوتوغرافية التقطت كل واحدةٍ وفق أحداثٍ تاريخيّة مُعيّنة تتعلّق بذاكرة القرن العشرين السياسيّة والاجتماعية بين عامَي 1926و1978. أمر يُؤكّد المكانة التي بات يحظى بها «متحف الفنّ الحديث والمعاصر» داخل القارة الأفريقية، بحكم ما راكمه في السنوات الأخيرة من عرضٍ لتجارب فنّية عالمية. فهو يجعلها فنياً تتناغم مع الحركة الفنّية المغربيّة وتدخل معها في سجالٍ جماليّ على مستوى الموضوعات والقوالب والأساليب. لا لأنّ هذه التجارب الفنّية الغربيّة، تُمثّل سُلطة بالنسبة إلى الفنّ المغربي، بل لأنّ طرائق العرض والتنسيق والتمركز داخل المُتحف، تعمل بشكلٍ جاهدٍ على تكسير هذه «الأنا» الغربيّة وهذا «السبق» التاريخي في التعامل مع قضايا الصورة والمُتخيّل، عبر مزج أعمالٍ فنّية مُختلفة الأجيال والانتماءات ومُتباينة الأساليب الفنّية والتيارات الجماليّة. لكنْ إذا كانت الفوتوغرافيا الفرنسيّة المعاصرة، قد نزعت منذ منتصف القرن العشرين ـــ بسبب طفرةٍ تكنولوجيّة ألمّت بها ــــ صوب التجريب الفنّي والتخييل الذاتي، فإنّ فوتوغرافيا بروسون، ظلّت قابعة في مَكانها على مستوى النّسق. إلاّ أنّها كانت قادرة على تحرير هذه الفوتوغرافيا الحديثة من رومانسيّتها الساذجة تجاه الموضوع من خلال تكسير الكادر، وجعل الصورة تلقائية وأكثر عبثية في طرائق تشكّلها، واحتكاكاً بالواقع العيني الذي تبلورت فيه. لذلك، فإنّ الزائر للمعرض يقف عند هذا العناق الخفيّ والتواشجات الجماليّة التي ترسمها أعمال بروسون مع الواقع. هنا يتبدّى الواقع كأنّه في سورياليّة بصريّة تتجاوز الخيال نفسه. إنّها لا تحجب الواقع لتُخفيه، بل لتلتقطه في طراوته ورشاقته، لتُعرّيه وتُقدّمه في قالب بصريّ مُحكم، لكن بدون تكلّف أو تفكيرٍ، أو تمثّل لما يُريد هنري الاشتغال عليه.
أصيلة (1933)

يترك هنري الكاميرا تتدلّى فوق صَدره، قبل أنْ يلتقطها بخفّة بين يديه، بما يجعل الصورة في مركز العين والقلب معاً. وهذه الطريقة في انتزاع الصورة من الواقع، جعلته أكثر الفوتوغرافيّين تصدّراً لصفحات الجرائد وأغلفة المجلاّت الفنّية، لما تنطوي عليه من مُباشرة ساحرة في التقاط تفاصيل ونتوءات الواقع وتحويلها تيمة بصريّة. هذا الأمر، بقدر ما فتح له طريق الشهرة في علاقته بمُؤسّسات العرض داخل فرنسا وأميركا، حصره بالنسبة إلى نقّاد الفنّ، باعتباره رائداً للتصوير الصحافي وحياة الشارع خلال القرن العشرين. وإنْ كان كذلك، فلأنّ الصحافة العالمية وجدت في مُنجزه الفوتوغرافي تحوّلاً بنيوياً وعميقاً في فهم علاقة الذات بالواقع. لذلك، ظلّت هذه الجرائد والمجلاّت تتسابق على بورتريهات بروسون، لا سيما تلك المأخوذة في بعض الأحياء المُهمّشة داخل مدريد وباريس ونيويورك وإسطنبول، كأنّها ترى في حياة الشارع خلاصاً وجودياً وبراديغماً جمالياً بالنسبة إلى الفنّان. لكنّ المُدهش أنّ هذه الأعمال الفوتوغرافيّة بدت كأنّها تُشكّل قطيعة نهائية مع الفوتوغرافيا الواقعية، فهو يُصوّر نتوءات الواقع، لكنْ بطريقة عجائبية، ما يُفسّر ذلك التأثير الذي رافقه كفنّانٍ وصديق لجماعة السورياليّة منذ لحظات تشكّلها خلال القرن العشرين.
قدرته السورياليّة على التقاط الصورة، تجعل هذا الواقع عينه ضرباً من التخييل أو «الفانتاستيك»


تُعدّ أعمال هنري كارتييه بروسون من أكبر النماذج الفوتوغرافيّة التي رمّمت ووثّقت ذاكرة القرن العشرين. صُوره لا يُمكن أنْ تخرج عن هذا الإطار التأريخيّ المحض في توثيق أجساد الناس وسيرهم وحكاياتهم والقبض عليها داخل صورة. ذلك أنّه يستكنه وجودهم عبر البورتريه، بطريقة يُحوّل فيها الجسد إلى مركزٍ للعين. إنّه يُظهر الجسد من خلال زمنين: الأوّل مُتعلّق بآنية أخذ الصورة، والثاني مُتّصل بحياة هذا الجسد في مُخيّلة المُشاهد. لذلك، فإنّ أغلب أعماله الفوتوغرافيّة (البورتريهات خاصّة) ذات تناقض مُلغزٍ، إذْ كلّما استقرّ رأي المُشاهد حول نجاعته في فهم صورةٍ ما، يتدخّل كلبٌ أو غصنٌ أو ريحٌ عاتية لتُغيّر، لتخلق له نوعاً من النشاز في طريقة فهمه للصورة: رجال عراة، امرأة طاعنة في السن تمسك طفلاً صغيراً. رجلٌ في مقتبل العمر يمسك رضيعاً وفي يده الأخرى سيجارة، سلالم مُهترئة ذات أفقٍ عمودي كأنّها تقود أرضاً من عدم، امرأة وحيدة وقد زادت تجاعيد وجهها جمالاً.
وعلى الرغم من كون هنري أحبّ الصباغة والرسم وتعلّمهما عام 1966 على يد الرسّام جان كوتني، إلاّ أنّ الفوتوغرافيا، ظلّت تسحره وتُثير في جسده فتنة المجهول، ما جعله منذ ثلاثينيات القرن الماضي، يبدأ سلسلة جولاته إلى بلجيكا وألمانيا وبولونيا وهنغاريا والمكسيك وأفريقيا. غير أنّ هذه الأماكن جميعها كانت كأنّها تُمهّد للقاء الكبير الذي جمعه بالزعيم الهندي غاندي عام 1948 بضعَ ساعاتٍ قبيل اغتياله، حيث سيلتقط له هنري بورتريهاً جميلاً سيُنشر آنذاك في مجلّة «لايف». كما جعله وجوده كمُصوّر صحافي غربي في روسيا (موسكو) بعد الحرب العالمية الثانية أكثر فنّانٍ فوتوغرافيّ يلتقط صُوراً للبلد خلال الحرب الباردة.

ايير ـ فرنسا (1932)

لم تكُن مرحلة السبعينيات قد حلّت بعد، حين تغيّرت ملامح الفوتوغرافيا في فرنسا والعالم ككلّ. بدا هنري كأنّه قد ختم فوتوغرافيا ذاكرة القرن العشرين وأسّس لنفسه مساراً فنياً رائداً ومُغايراً داخل الفوتوغرافيا الفرنسيّة الحديثة. لكنْ، بالنّظر إلى المعرض الاستعادي لهنري كارتييه في الرباط، يكتشف المرء ذلك الحظ الكبير الذي رافقه والقدر الذي جعله في أكثر الأماكن قساوة وبرداً وجوعاً. تأثّرت صُوره بطبيعة الحياة الاجتماعية، التي عاشها داخل البلدان التي أقام فيها أو مرّ منها أو حتّى زارها، بخاصّة أنّه شارك في الحرب العالمية الثانية وأُسر لمدّة ثلاث سنواتٍ، وعوقب مراراً بسبب هربه، ما جعله عرضة للأشغال الشاقّة في ذلك الوقت. لكنْ بعد نهاية الحرب، بدت أعماله الفوتوغرافية كأنّها تثور على البورتريهات العامّة والضيّقة والصغيرة التي التقطها لعددٍ من الناس الذين صادفهم في رحلاته. ستُصبح أعماله أكثر تحرّراً من الكادرات الصغيرة، إذْ بدت بعضها تلتهم أكبر حجمٍ مُمكنٍ من جزئيات الواقع. كما يلاحظ الزائر للمعرض الحجم الصغير للصور وتعدّد موضوعاتها في الإطار الواحد. وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي وُجّه له بسبب هذه الحيرة في اختيار موضوعاته الفوتوغرافيّة، إلاّ أنّها لم تكُن تُفسّر إلاّ بأطياف الحريّة والرغبة في التحليق بالفوتوغرافيا إلى سماء التحرّر من الكليشيهات والنظريات والمَعارف الأكاديميّة في التصوير الضوئي، صوب فوتوغرافيا مُنفلتة من قبضة المعرفة وأكثر التحاماً بسوسيولوجيا الجسد وتموّجاته داخل الفضاء العام.
«جبل أسو» (اليابان ــــ 1965)

يطرح هنري كارتييه بروسون في مَعرضه الاستعادي هذا، سؤالاً فكرياً يتّصل بعلاقة الفوتوغرافيا بالتاريخ، وكيف يُمكن لهذا الوسيط الفنّي البصريّ الأكثر جموداً وثباتاً، أنْ يغدو وثيقة للتأريخ وكتابة مُغايرة للذاكرة تستند إلى اجتراح أفقٍ فكري مُنفلت من قبضة التاريخ الرسميّ. من ثمّ، تقترح علينا أعماله سلسلة من الأحداث التاريخيّة الهامّة إبّان القرن العشرين. وقد جاءت إمّا على شكل مَناظر طبيعية أو بورتريهاتٍ شخصيّة، مع أنّ هذه الأخيرة احتلّت مكانة بارزة داخل ريبرتواره الفوتوغرافي، لما تنطوي عليه من خلقٍ وتجديدٍ في النظر إلى الإنسان وتوثيق مَواجعه وعلاقته المُتشظّية بالواقع الذي ينتمي إليه. لذلك، فإنّ اعتبار أعمال هنري كارتييه بروسون مُتخيّلاً أمرٌ أقرب إلى الاستحالة منه إلى المُمكن. فهو ينطلق من طوبوغرافيّاتٍ واقعيّة ومن أحداثٍ حقيقية، غير أنّ قدرته السورياليّة على التقاط الصورة، تجعل هذا الواقع عينه ضرباً من التخييل أو «الفانتاستيك». لا يوجد خيالٌ في أعمال هنري كارتييه بروسون، إلاّ في طريقة نظرنا نحن إلى الواقع. فهو يُحرّر ذاتية الفنّان من سُلطتها على الصورة، يتركها مُشرّعة على التأويل. إذْ يغدو بالنسبة إلى المُتلقّي مفهوماً معيارياً يقيس به المُشاهد حجم أو ارتفاع منسوب الجمال في التجربة.

معرض استعادي لهنري كارتييه بروسون ــــ «متحف محمّد السادس للفنّ الحديث والمعاصر» (الرباط) ـــــ
henricartierbresson.org