تنتقل غادة الزغبي في لوحتها بالأبنية من حجارة خارجيّة إلى فسحات معنويّة عالقة، ولو أنها ترسمها كهياكل حياديّة. تنقلها إلى المفرّج كمساحات معزولة وغير مكتملة في معرضها الجديد Pretty Abandoned الذي يستمرّ في غاليري «جانين ربيز» (الروشة – بيروت) حتى 17 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي. تحوّل الفنانة اللبنانية هذه العمارات والأنصاب المصنوعة من الفراغ، إلى حالة عامّة وفرديّة على السواء، مرادفاً لعطالة المدينة ومشاريعها غير المكتملة. في معرضها الفردي الثاني، تتخلّى عن المساحات الداخليّة لخزائن الثياب التي رسمتها في لوحات معرضها «أنظمة الشخصي» سنة 2016. هذه المرّة، تنصرف إلى النقيض من ذلك، إلى فسحات مدينيّة خارجيّة. غير أن ذلك يبقى تحوّلاً ظاهرياً، إذ إنها تجعل هذه العمارات أماكن خاصّة وخفرة بأسلوبها، مخصّصة لها اللوحة بأكملها. ستنقّب بصريّاً في هذه العمارات، وهياكلها، ودواخلها التي تكون عبارة عن خلوّ تملؤه الزغبي بالخطوط الحادّة والضوء والعتمة. يتجلّى هذا التوجّه في الرسم من خلال اشتغال الفنانة على هذه الأبنية كما لو أنها ترسم بورتريهات لها من دون تأثيرات أو حضور بشريّ مباشر، فالأثر البشري، إن وجد، يبقى محصوراً بلمسات محدودة، أو في مستقبل الأبنية المعطوب الذي يحيل إلى توقّف عمليّة البناء.
«من دون عنوان» (أكريليك وفحم على ورق ـــ 54 × 30 سنتم ــــ 2020)

اختارت الزغبي عمارات هُجِرَت لأسباب عدّة. إنها أبنية في طور البناء، أو تخضع لعمليّة ترميم، وأخرى تركت كعواميد بلا أيّ أفق، كنصب لمشاريع عمارات مجهضة. ولعلّ التحدّي الفنيّ يكمن هنا، في عمليّة الرسم التي تقترن في لوحات الزغبي بلحظة متوقّفة وعالقة. كيف للرسم أن يتحرّك في هذه المساحة الراكدة بدون أيّ اشتباك؟
غالباً ما تخوض العمارات في السياق التشكيلي اللبناني صراعاً مع الهدم أو التهديد، في إشارة مبطّنة إلى فترة إعادة الإعمار وقبلها الحرب. هذا التوجّه في رسم الأبنية، بأساليب مختلفة، عمد إلى رسم مبانٍ ذات خصوصيات معماريّة أو سياسية واجتماعيّة، أو أخرى تحيل إلى الحرب التي ترتسم ندوبها على هياكل العمارات الخارجيّة خصوصاً في التجارب المعاصرة. كما أنها تحوّلت في كثير من التجارب إلى حقل لتجريب تقني. أما في لوحات سابقة، خصوصاً مع جيل الحرب، فإن الفضاء الجغرافي كان يستحضر ذوات ممزّقة ومشتّتة. ويبدو كمرادف للصراعات والمآزق البشريّة في المدينة. بكلّ الحالات، لم يبتعد هذا التوجّه عن سؤال الهُويّة الوطنيّة نفسها، رغم أنه غالباً ما اتّخذ العاصمة اللبنانية وعماراتها كأنصاب له.
من هنا لا يمكننا إغفال السؤال عما تعنيه هويّة عمارات الزغبي بحالاتها العالقة. تنتزع الفنانة المباني عن الفضاءات العامّة المحيطة بها، باستثناء بعض الأعمال التي يظهر فيها المحيط كظل فحسب. أبنية الزغبي وبورتريهاتها العمرانيّة تحفظ صمت هذه الأبنية وصراعاتها الخفيّة. لا ترتبط بحدث بعينه أو تشير إليه، أو لا تلحق بأيّ من مباني بيروت الشهيرة، ولو أننا قد نتعرّف أو نستذكر أماكن بعضها. وبأسلوبها في نقل الفراغ والصمت، تتبع الفنانة بأمانة رحلاتها الذاتيّة إلى هذه الفضاءات والأمكنة. كلّ ذلك يظهر في اللوحة، خصوصاً حين تلوح الأبنية بمفردها فيما تقبع علاقتها مع الفضاء المديني العامّ في الخلفيّة. لا ترتبط هذه اللوحات مباشرة بتهديد الإرث المعماري، رغم أنها تشير إلى غياب فعليّ لأيّ تخطيط عام. فهذه الأبنية ليس مصيرها الهدم، بقدر ما هي مبتورة ومتروكة لمصيرها. ويبدو هذا المصير أشدّ رسوخاً وعنفاً من الهدم.
«من دون عنوان» (أكريليك وفحم على كانفاس ـــ 250 × 150 سنتم ــــ 2020)

يتضمّن المعرض 15 لوحة بمقاسات عدّة، لجأت فيا الزغبي إلى الأكريليك، فيما دمجته مع الفحم في اللوحات الأصغر حجماً والتي لا تتجاوز السنتيمترات القليلة. في لوحاتها بالمقاسات الصغيرة، تظهر التقنيات المكثّفة للفنانة، حيث تعتمد على الخطوط الحادّة، والإضاءة التي تنتزعها من الفضاءات الداخليّة انتزاعاً. من هذه العناصر المقلّة، والتنويع على الظلام الداخلي بتدرّجات الأسود والرمادي، يبدو الرسم وسيلة أخرى للفنانة لاستنطاق هذه الأمكنة المتروكة. وفيها تتجلّى العلاقة الذاتيّة مع الأبنية، أكثر من تلك التي تظهرها اللوحات الأكبر حجماً.
أما في بورتريهاتها الخارجيّة للعمارات، فقد اختارت الفنانة عمارات متّكئة غالباً على حدائد حادّة، أو أي جسم صلب من شأنه أن يحول دون تهاويها. ربّما هذا الانطباع الذي تتركه اللوحات. لا تستسلم الزغبي إلى الواقعي من الأبنية تماماً. صحيح أنها تنقل تفاصيلها أحياناً مثل الدرجات والنوافذ، وتترك جدرانها الفارغة كما هي بألوان الحجارة الترابيّة والبيضاء والرماديّة، إلا أن أسلوب الفنانة يضاعف من انتصابها الحادّ وتروّسها من الأعلى، فيما تكسر هدوءها ببقع الأحمر والأخضر أحياناً. ولو أن بعض اللوحات تعيد إلى المتفرّج مشاهد من انفجار المرفأ وأبنيته المهدّمة والمتضرّرة، جرّاء العصف الهائل، إلا أن الفنانة بدأت عملها على المعرض قبل ذلك التاريخ. إنها تجعل من عماراتها أنصاباً وتماثيل تسعى إلى الارتفاع لكنها لا تصل، وبهذا ترسم الركود كمصير أشدّ فتكاً من التدمير.

Pretty Abandoned لغادة الزغبي: حتى 17 تشرين الثاني (نوفمبر) - غاليري «جانين ربيز» (الروشة – بيروت). للاستعلام: 01/868290