في العام 1982، كان الطالب في مدرسة الكرمل الثانويَّة علي أبو ياسين يتوجَّه إلى مدرسته باكراً ليقدّم عرضه المسرحي للطلاب (ينتظرونه بشغف عند السَّادسة صباحاً لمشاهدته قبل دخولهم إلى الصفوف) من دون أن يتوقَّف لحظة عن التفكير في المبنى الضخم الذي يشيّده عدد كبير من العمّال قبالة المدرسة. كانت الحكايات التي تناقلها الطلاب حول البناء مثيرة للفضول فعلاً، فبعضهم قال إنَّه قصر للملك الأردني، فيما أكَّد آخرون أنَّه عائد للحاج رشاد الشوّا (1909 – 1988) رئيس بلديَّة غزّة وأثرى رجال الأعمال فيها. أمَّا الرواية الأكثر غرابةً، فقد ذهبت إلى حدّ ربط المبنى بوكالة الاستخبارات الأميركيَّة! آخر ما كان يتوقَّعه أبو ياسين يومذاك أنَّه سيفتتح بنفسه بعد عشر سنوات مسرح «مركز رشاد الشوّا الثقافي» الذي سيصبح قبلة عشاق المسرح في غزّة ليقدّم أوَّل عرض مسرحي على خشبته! «إبريق الزيت» (كتابة جهاد سعد وإخراج سعيد البيطار) التي قُدِّمَت في افتتاح المركز عام 1992، كانت عرضاً مسرحيّاً متكامل العناصر: ديكور، موسيقى، ملابس، إخراج، وشكَّلت انطلاقة فعليَّة لمسيرة فنيَّة حافلة استمرَّت حتى اليوم وتخللتها محطات كثيرة. وبعد عروض في غزة، قرَّرت الفرقة تقديم عرضها في الضفة الغربيَّة، فاصطدمت محاولاتها المتكرّرة بجدار رفض الحاكم العسكري الإسرائيلي السماح لأفرادها بالعبور، فلم يبقَ أمام هؤلاء سوى التسلل إلى الضفة بواسطة سيَّارة إسعاف تنقل حالة مرضيَّة مزعومة لتقديم عرضهم على المسرح الوطني!
بعدها، حظي الشاب العاشق للمسرح برعاية من المخرج الهولندي يان ولمز الذي يصفه اليوم بالمعلم والأستاذ وصاحب الفضل الكبير، وبسنوات من التعليم والتدريب في مؤسستَي «عشتار» و«أيَّام المسرح» على يد ولمز وآخرين منهم بيتر بارشلار وسامح حجازي. وقد دفعه الاحتضان الذي لاقاه من أساتذته الذين تبنّوا موهبته وآمنوا به باكراً - بالإضافة إلى عدم توافر معهد عالٍ للفنون المسرحيَّة في غزة - إلى وضع تعليم الشباب وتدريبهم على التمثيل نصب عينيه طوال مسيرته الفنيَّة، وخاصَّة من خلال «فرقة البيادر المسرحيَّة» التي أنشأها عام 1994 وضمَّت مجموعة من الشباب الذين شاركوه عشق المسرح.
وقد حفلت مسيرة أبو ياسين كممثل ومخرج بمحطات كثيرة تجد طريقها سريعاً إلى ذاكرته في حديث مع «الأخبار»، فيذكر لنا منها: مونودراما «أبو عرب في خانة اليكّ» (ارتجالات أبو ياسين وبناء نصّ رجب أبو سرية، وإخراج نعيم نصر/ 2000)، «أبيض أسود» (كتابة وإخراج أبو ياسين)، «الدبّ» (إعداد وتمثيل وإخراج أبو ياسين عن نص لتشيخوف)، «فيلم سينما» (كتابة أبو ياسين وعاطف أبو سيف وإخراج حسين الأسمر)، «جميلة ومطاوع» (ارتجالات المجموعة وإخراج يان ولمز)، «الاستثناء والقاعدة» (عن نصّ لبريخت وإخراج ولمز)، «كفر شمّا» (تأليف مجموعة «مسرح الحكواتي» وإخراج ولمز)، «منطق الطير» لفريد الدين العطار (إخراج الفرنسي الراحل فرانسوا أبو سالم مؤسّس المسرح الوطني الفلسطيني)، «أهلًا بكم في الجحيم» (ارتجالات المجموعة وإخراج فيليب دومولا)، «شقة بطالة ترامال» (2015)، «المصوّر» (كتابة عاطف أبو سيف)، «مشاعر» (كتابة وإخراج أبو ياسين)، «غالية» (كتابة وإخراج زهير البلبيسي/ 2020)، «الأوَّل من أيار» (كتابة وإخراج أبو ياسين/ 2021)، و«خبير كورونا وعلوم سياسيَّة» (كتابة وإخراج أبو ياسين/ 2021)، بالإضافة إلى «روميو وجولييت في غزّة» (كتابة عاطف أبو سيف) و«دار الجنون» والمسرحيَّتان الأخيرتان كانتا بمثابة صرخة في وجه الانقسام الفلسطيني.
وله في الإخراج أيضاً: «المهرّج» (عن نصّ للكاتب السوري محمد الماغوط/ 1994)، «الجرّة» (عن نصّ للويجي بيرانديللو/ 2002)، «رحلة إلى الملك» (كتابة لويس فيكتور/ 2003)، «أبناء هرقل» (يروبيدس/ 2014)، و«الغرباء لا يشربون القهوة» (كتابة المصري محمود دياب).
ومع انتعاش حركة الانتاج الدرامي نسبيّاً في غزّة، شارك أبو ياسين في عدد لا بأس به من المسسلات، منها: «عمّي جبارة» (كتابة خالد جمعة وإخراج طارق يخلف)، «من الآخر» (كتابة أبو ياسين وإخراج جواد حرودة)، «فلاش» (كتابة وإخراج صلاح القدومي)، «الكنعاني» (كتابة بشير الهواري وإخراج محمد دراج)، «العنقود» (إخراج حسام أبو دان)، وغيرها.
كما شارك في العديد من المهرجانات العربيَّة، ومنها «مهرجان المسرح الأردني للمحترفين»، و«مهرجان القاهرة لعروض المسرح العربي»، و«مهرجان الربيع الدولي» في تونس الذي حصل خلاله على جائزة أفضل ممثل عن مونودراما «أبو عرب في خانة اليكّ»، وقد تمَّ تكريمه في تونس على هامش «مهرجان المسرح المغاربي» في العام 2017 ولكنه لم يتمكن من حضور المهرجان بسبب إغلاق المعابر.
ويرى أبو ياسين في حديثه مع «الأخبار» إنَّ للفنّ في فلسطين خصوصيَّة تجعله مختلفاً عمَّا هو عليه في أي بلد آخر، فالفنّان يولد ليجد نفسه في مواجهة مفتوحة مع محتل غاشم، ومعنيّاً بالتالي - أكثر من سواه في بلدان أخرى - بتقديم مادَّة فنيَّة لائقة تسهم في استنهاض همم أبناء شعبه لمناهضة الاحتلال، ولكن هذه العوامل ذاتها هي في الوقت نفسه عوائق لا يُستهان بها، فالاعتداءات المتكرّرة والانتفاضات والحصار الخانق وما ينتجه من حالة فقر مدقع ليست مناخاً ملائماً للعمل المسرحي الذي يحتاج إلى الهدوء والاستقرار. ولكن هذا كله لا يثني الفنان الفلسطيني عن محاولة زرع بسمة أمل والصراخ في وجه العالم أنَّه يستطيع أن يحلم وأن يغنّي رغم صواريخ الاحتلال ونيرانه. وإذ يستذكر أبو ياسين تدمير العدوّ لـ «مسرح المسحال» في غزّة عام 2018، يعتبر أنَّ العدوّ يدرك أهميَّة الفنّ والثقافة في المعركة، ويستهدفهما بشكل مباشر، من اغتياله لغسان كنفاني وناجي العلي وماجد أبو شرار إلى تدمير «مكتبة منصور» و«مؤسسة بسمة» و«دار الأرقم». ويرى أنَّ معاناة الفن وأهله في قطاع غزّة لا تقتصر على الاعتداءات المتكرّرة وتدمير المسارح والمراكز الثقافيَّة، إذ تشمل أيضاً غياب الرعاية للأعمال الفنيَّة ما خلا بعض المبادرات الفرديَّة البسيطة من رجال أعمال فلسطينيين لا تسمن ولا تغني. إذ يضطرّ صنَّاع العمل إلى تفصيله على قياس الميزانيَّات المتاحة أحياناً، أو تمويله ذاتيّاً في حالات أخرى، ويؤكد أن لا قيامة حقيقيَّة للفنّ في غزّة ما لم تُفتَح المعابر ويعود الفنّان قادراً على السفر وتبادل الخبرات مع أقرانه كما كان سابقاً. فالأعمال الفنيَّة المنتَجة حاليّاً تبقى حبيسة غزّة التي تحوَّلت إلى سجن كبير يقدّم فيه معتقلون عروضاً فنيَّة مهمَّة لا يراها سوى زملائهم في السجن، في حين أنَّها قادرة على منافسة أهمّ الأعمال المسرحيَّة في العالم.