رحل قبل أيام الهولندي برنارد هايتينك (1929). برحيله تسقط عصا أحد عمداء المهنة من الطراز الأسطوري. إنه وريث كبار قادة الأوركسترا من مواطنيه، في هذا المجال الموسيقي الذي بدأ في هولندا مع فيليم منغلبرغ (1871 — 1951) المولود قبل قرن ونصف القرن، ثم بول فان كامبن (1893 — 1955) وبعدهما إدوارد فان باينوم (1900 — 1959). فمنذ ستينيات القرن الماضي، ورث هايتينك القادة الثلاثة من الرعيل الأول، وحمل شعلة القيادة وحده، بعد رحيلهم جميعاً في خمسينيات القرن الماضي. فهولندا أعطت قادة كبار طبعاً، لكن الاهتمام بالريبرتوار الرومنطيقي وما بعده بقليل وما قبله بقليل، الذي أسّس له الثلاثي منغلبرغ / فان كامبن / فان باينوم، لم يجد أحسن وأنشط من برنادر هايتينك للاستمرار به وتغذيته بمئات الديسكات (أكثر من أربعمئة) والتسجيلات المرجعية، على مدى أكثر من ستة عقود. صحيح أن المنافسة معه في جزء من الريبرتوار الرومنطيقي (بيتهوفن، شوبرت، برامز، بروكنر،…) كانت قوية بفعل قادة أنجزوا، في القرن العشرين، أعاجيب في أداء سيمفونيات القرن التاسع عشر، لكنّ هايتينك استطاع تقديم المستوى اللائق دائماً، من جهة، وأنجز ما لم يمكن تجاوزه من جهة أخرى، مثل تسجيلاته الذهبية لعملاقَي الكتابة السمفونية، السوفياتي ديمتري شوستاكوفيتش (1906 — 1975) والإنكليزي رايف فون ويليامز (1872 — 1958). بالإضافة إلى السمفونيات والأعمال الأوركسترالية. تعاون هايتينك مع أهم رموز العزف المنفرد في الكونشرتوهات الكبيرة، مثل عازفي البيانو ألفرِد برندل وموراي بيرايا وأندراس شيف (كونشرتوهات بيتهوفن) وفلاديمير أشكينازي (كونشرتوهات رخمانينوف) وعازفي الكمان هنريك شيرينغ (بيتهوفن وبرامز) وأرتور غروميو (مندلسون) وكثيرين غيرهم.الحقبة التي همّشها برنارد هايتينك بشكل شبه كامل هي الباروك، وتحديداً ريبرتوار باخ، ربما لا لسبب سوى أنّ «خدّام» المؤلف الألماني في هولندا سدّوا هذه الثغرة بشكل كافٍ ومحترم، كأنّ ثمة توزيع أدوار جرى بين أبناء الوطن الواحد. نقصد طبعاً الراحل غوستاف ليونهاردت والمخضرم طون كوبمان، اللذين، وحدهما، غطّيا تقريباً أبرز ما ترك باخ من مؤلفات في شتى الفئات، من الأعمال الدينية إلى تلك الأوركسترالية وأعمال الكلافييه، بما فيها الأرغن الكنسي.
قاد برنارد هايتينك أهم الأوركسترات، لكن اسمه ارتبط بشكل أساسي بواحدة من بلاده، وهي من الأهم في العالم، أي «كونسرتغيباو أوركسترا»، بالإضافة إلى «لندن الفلهارمونية» (وكذلك «لندن السمفونية») و«شتاتسكابّيلي درَسدِن» وغيرها. في صيف 1989، صعد هربرت فون كارايان الثمانيني للمرة الأخيرة على البوديوم ليقود «أوركسترا فيينا الفلهارمونية» في السمفونية السابعة لبروكنر. في صيف 2019، قاد برنارد هاتينك التسعيني «فيينا»، في حفلةٍ كانت أخيرة، وعلى مائدة الوداع حضرَت أيضاً سابعةْ بروكنر. يبدو أن الكبار يتشاركون أفكاراً من قاموسٍ لا نستطيع أن نملكه، لكن علينا ويمكننا أن نفهمه… فأين يكمُن سبب وجودنا في هذا الكون، إن لم يكن هنا؟!