تقع قصّة «مدينة مجاورة للأرض» المصوّرة لجورج أبو مهيّا، بين محطّتي الحافلة، وصولاً وذهاباً. بينهما، يتنحّى البطل فريد الطويل عن حياته الروتينيّة كموظّف ليخوض مغامراته في المدينة القاتمة، ووسط أبنيتها الظاهرة والمخفيّة. رغم إقامته في فرنسا، إلّا أن الفنان اللبناني لم يتخلّص تماماً من طيف بيروت. ليس طيفاً تماماً ذلك الذي نراه في القصة، لأن المدينة ظاهرة بأصغر وأدقّ ملامحها، كلقطات شديدة الواقعية لا تفوّت الشعارات والإعلانات وعشوائيّة المباني. تحمل هذه المدينة المجاورة للأرض، ملامح من العاصمة اللبنانية، لكن أبو مهيّا يشرّعها، في سياق سرده، على عوالم غرائبية؛ كرنفالات للعراة تجوب الشوارع، ومتجر للأجنّة الميّتة، وغيرها من المعالم الكابوسيّة التي تدفع القارئ لأن يشكّ بوجود المكان أساساً.

شكّ يرافق البطل نفسه، وشخوص المدينة ممن يلتقي بهم فريد في جولاته. الرهبة هي ما يحرّك المشاهد طوال القصة، في كادرات يختارها الفنان بعناية لزوايا مختلفة ووضعيات في تتبّعه لفريد وتنقّلاته في الفضاءات المدينية الخالية. كلّ ذلك يرسمه بالحبر بريشته، من تدرّجات الأسود. لا تفوّت دقّة الأسلوب أيّاً من تفاصيل الإضاءة والظلال والحركة والمؤثرات الأخرى التي تجعل من القصّة شريطاً بصريّاً حياً. في الجزء الأوّل الذي صدر سنة 2011، يضلّ فريد الطريق إلى بيته، أو لعلّه يصله من دون أن يعثر عليه. اختفى المبنى تماماً، ومعه عائلة فريد. لن ندرك خلال رحلة بحثه إن كان المبنى اختفى حقّاً أو أن اختفاءه هو حالة وهميّة تسيطر على البطل، أم أنها رغبته الدفينة في التخلّص من حياة روتينية بين عمله كموظّف في شركة للتأمين وبين عائلته ورحلاته اليومية المملّة بالباص.
في كلّ الحالات، يوقظ هذا الاختفاء شعوراً عميقاً من اللاثبات واللايقين في هذه المدينة، من التهديد الدائم بالزوال، مشيراً إلى الكثير من السياسات والسلطات التي تتحكّم بمصائر سكّانها منها المشاريع العمرانية الهمجية أو الأحداث الأمنية، التي تختصرها القصّة بشخصيّة الرجل الوطواط الشرير. تسيطر هذه الأجواء على الجزء الثاني من القصّة المصوّرة التي صدرت أخيراً عن «دار قنبز»، ووقّعها الفنان أخيراً في «غاليري تانيت» (مار مخايل – بيروت) ضمن معرض فردي في «مهرجان الشرائط المصوّرة في بيروت». هكذا تخصّص الدار اللبنانية إصدارها الجديد للراشدين بعمل تمّ إنتاجه محلّياً بشكل كامل (راجع الكادر) في ظلّ الظروف الصعبة في البلاد.

في هذا الجزء الذي يتصدّر غلافه مبنى شركة كهرباء لبنان في مار مخايل، يواصل فريد مغامراته في البحث والضياع، فيما تُضاف إليها مغامرات أخرى تتربّص به في هذه المدينة التي تشتدّ عشوائية وغرابة. يصنع أبو مهيّا من واقع البلاد، شخوصاً وتحدّيات خياليّة لا تنفكّ تشير إلى مآزق قعر المدينة الحقيقي. يضع أمام البطل عراقيل عدّة، تتمثّل في حياته التي يأكلها الروتين، وهواجسه الشخصية وتخيّلاته. لا ينجو البطل من رأسه وتيهه في الغرف المغلقة، منها حواراته مع صديقه إميل، والأطياف التي تتراءى له في منزل والديه. أما في الخارج، فتطارده مآزق أخرى حين يلحق به الرجل الوطواط مهدّداً بسلاحه. كأن هذه المدينة موجودة وغائبة في الوقت نفسه، شخوصها حقيقية لكنها طيفية أيضاً، ومهدّدة دائماً.
أسلوب واقعي في الرسم ومناخات ديستوبيّة في القصّة، خصوصاً في المشاهد البانوراميّة للمدينة


من خلال رسوماته الساحرة، وبرفقة الحوار المحكي الفكاهي أحياناً والفج بشتائمه، يفرد أبو مهيّا الجزء الثاني من قصّته إلى صراعات فريد الشخصيّة، وإلى أخرى تحاكي الحالة العامّة في البلاد ضمن أجواء عنيفة وساخرة. هكذا تتوالد الشخصيّات الأخرى: الرجل الثائر في حديثه عن الصراعات الطبقيّة والطائفيّة... وقتينة صاحبة صديقه إميل، التي تصبح مهرب فريد وخلاصه من حياته التي اختارها مكرهاً بعدما فشل في إكمال طموحه كنحّات. بمزجه هذا الأسلوب الواقعي في الرسم، بالإضافة إلى تجسيده قلق وحالة بطله المتردّية، تتشكّل المناخات الديستوبيّة في القصّة، خصوصاً في المشاهد البانوراميّة للمدينة ولخطوات بطلها التي كأنما لا تجد لها صدى في الشوارع. في المقابل، تنغمس القصّة بشكل مباشر أحياناً في الأوضاع السياسية. يبدو الرجل الوطواط نموذجاً لكلّ السلطات السياسية التي تهدّد حيوات السكان، وتصرّ على احتكار الأرزة، خصوصاً حين يتصدّر نصبه في النهاية واحدةً من مساحات المدينة، في إشارة إلى الوجوه والإعلانات التي تحتلّ الأبنية. نرى السباق الأعمى إلى الانتخاب من أجل الحصول على الوظيفة ضمن كرنفال للعراة، مثلاً، وبهذا لا يلجأ أبو مهيّا إلى التعليقات السياسية السريعة، بل تلتحق الأخيرة بسياق القصّة ضمن ترميزات مختلفة.


بعيداً عن كلّ ذلك، تنجح القصّة أكثر في توصيف الصراعات الفردية للشخوص، في محاولة بحثها عن معنى لحيواتها. وهو ما برع فيه أبو مهيّا تحديداً، كما حين، يتمكّن من خلال الرسم وحده، في إحدى صوره البانورامية للمدينة بإضاءتها الخافتة، من بعثرة بطله وتصوير انقساماته في عمل فني مستقلّ بذاته. يستعين بمفردات أساسيّة من مدينة بيروت وتاريخها ويوميّاتها، لكي يصنع مدينة تقبع عند نهاية العالم، يخوض أبناؤها رحلات عبثية لا تصل بهم إلا إلى نقطة البداية. بأسلوبه الذي استخدم فيه الحبر الأسود بريشته، يرسّخ أبو مهيّا تقنيّة متفرّدة في فن الشرائط المصوّرة للبالغين، تقوم على الرسم المتمهّل والبطيء والرؤية الفنية الجمالية التي تعلو على صوت الحوارات، وهذا ما نراه في نسخ الرسومات الأصليّة المعلّقة في المعرض.

معرض «مدينة مجاورة للأرض» لجورج أبو مهيّا: حتى الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) – غاليري «تانيت» (مار مخايل – بيروت). للاستعلام: 01/562812


«دار قنبز» : إنتاج محلّي كامل
من بين المعارض الكثيرة التي احتضنها «مهرجان القصص المصوّرة في بيروت»، منذ بداية الشهر الحالي، يعدّ معرض «مدينة مجاورة للأرض» إنتاجاً محليّاً متكاملاً في فن الشرائط المصوّرة. يقدّم المعرض اللوحات الأصليّة لجزءي قصّة جورج أبو مهيّا، التي نشرتها «دار قنبز» في ظلّ الظروف الصعبة التي تسيطر على البلاد. مديرة الدار ندين توما اتخذت مع شريكتها سيفين عريس قراراً في ألا تتنازلا عن أي من الخيارات الجمالية والتقنيّة للدار، خصوصاً في عمل يحاكي بسخرية قاتمة الظروف الحالية في البلاد. على جدران الغاليري في المعرض، نقع على الأعمال الأصلية للقصّة المصورّة بجزءيها، وهي تشكّل مدخلاً آخر إلى تلقي هذه القصّة وقراءتها بالرسم وحده من دون الحوارات. تجربة فنية مختلفة برفقة موسيقى سيفين عريس المنبعثة من فيديو قصير أعدّته كمدخل إلى عوالم جورج أبو مهيّا. نتابع في الشريط أبو مهيّا وهو يرسم واحدة من أبرز لوحات قصّته المصوّرة، بالحبر فحسب، في رحلة بصريّة متأنيّة نرى فيها كيف تتوالد عوالم القصّة بريشته على الورق وبتدرجات اللون الأسود وحده.