ترجمة: عبد النور زياني
فضّل بابا داڤينا، المعروف أيضاً باسم تيريبوغو، صياغة كلماته الحكيمة. كانت هذه، على سبيل المثال، أشهرها:
ـــ المنظور هو كل شيء.

نظرت الباحثة الصباحية، زبونته الأولى والوحيدة في ذلك اليوم والجلسة الخاصة جداً، إن لم تكن المخصّصة، إلى الأعلى وأومأت برأسها.
أشار بابا د.:
ـــ اذهبي إلى تلك النافذة. اسحبي الستارة وانظري من خلالها.
كانت قاعة الاستقبال مظلمة بعض الشيء، استغرقت الباحثة بعض الوقت لتتلمّس طريقها عبر الطيّات العريضة وتجد مفرق الوسط. أخذت الستائر الثقيلة بين يديها وانتظرت. أشار لها بابا داڤينا أن تكمل الحركة، واستمر بنبرته الهادئة شبه التأملية:
ـــ عندما تدخلين إلى هذه الأماكن، من الضروري أن تَنْسَيْ ما أنت عليه، ومن أنتِ. اعتبري نفسك مجرّد باحثة. سأكون مرشدك. أنا لا أنتمي إلى تجار الرسالة النبوية المبتذَلين. لقد ولّت أيام الأنبياء العظماء. أنا معك فقط كتنبُّؤٍ. وحده الله القدير، الله الغامض، هو الحضور ذاته، ومن يجرؤ على الاقتراب من حضور الواحد والأحد؟ مستحيل! لكن يمكننا أن نقترب من علم الغيب، مثلي أنا. نحن قليلون. نحن مختارون. نحن نسعى إلى قراءة خططه. أنت الباحثة، وأنا المرشد. أفكارنا يمكن أن تؤدي فقط إلى الوحي. من فضلك، اسحبي الستارة كلياً.
تحرّكت الباحثة إلى الجانب الآخر. غمر ضوء النهار الغرفة. وطاردها صوت بابا د.


ـــ نعم، انظري وأخبريني بما ترينه.
وصلت الباحثة إلى المنحدر المعاكس، الذي كان قذراً تماماً، دون راحة. على هذا الجانب من التل، وما قفز على الفور إلى نظرها كان خليطاً أكثر انتقائية. في الأسفل، كانت هناك أفاريز متناثرة من ألواح الحديد، والبلاط الطيني والأسقف الحديدية المموجة الصدئة، مع وجود صفوف قليلة منعزلة ولكن أنيقة من الأبراج السكنية الحديثة للغاية. كانت خيوط مناطق التناقض هذه عبارة عن خطوط متشابكة من السيارات من كل ماركة. وكانت المدينة قد بدأت للتو في اكتساب زخمها في الصباح، لذلك كانت هناك خلايا نحل بشرية نابضة، عمّال على كراسي دراجات الأجرة النارية يتجوّلون بين برك من الأمطار الليلية والمزاريب المتدفقة. تلألأت، من بعيد، ورقة من البحيرة. استدارت الباحثة ووصفت النتائج التي توصّلت إليها للرسول.
ـــ الآن أريدك أن تقرب نظرتك إلى المستوى الذي نحن فيه بهذه الغرفة. دعي نظرتك ترتفع للأعلى من تلك المدينة حيث تتعفن، تجعلها أقرب إلى مستوانا. بين المكان الذي تقفين فيه وهذا المشهد الجنوني، ماذا يوجد أيضاً؟
لم تتردد الباحثة.
ـــ قمامة. أكوام من النفايات. تماماً مثل الطريق الآخر، كان مساراً مليئاً بالعقبات، لتمهيد طريقي إلى هنا. مجرّد أكوام من نفايات المدينة.
بدا داڤينا راضياً.
ـــ نعم، كومة روث. لقد مررت بها. لكنك لست في أي مكان، وهل تقولين أنك كنت واقفة على كومة روث؟
هزّت المرأة رأسها.
ـــ ليس على الإطلاق، بابا د.
أومأ الرسول برأسه، يبدو أنه راضٍ مرة أخرى.
ـــ أغلقي الستائر من فضلك.
امتثلت الباحثة. كان من المفترض أن يعود الجزء الداخلي من الغرفة إلى عتمته السابقة، وتوقعت أن تتلمس نصف طريقها مرة أخرى، لكن لا. قادت الأسهم متعدّدة الألوان، كأضواء مخرج الطوارئ على أرضية الطائرة، قدميها نحو قسم مختلف من الغرفة. لم تكن بحاجة إلى عرض سلامة مضيفة طيران لإعلامها بالغرض منها، تابعت الأضواء. توقّفا عند مقعد منحوت بشكل جميل. ذكّرها بمقعد أشانتي الملكي الذي شاهدته في الصور.
ـــ اجلسي على هذا المقعد. يجب أن آخذك في رحلة، لذا كوني مرتاحة.
كان الواعظ، الآن، هو من وقف.
ـــ هناك الكثير، بمن فيهم مواطنونا، يصفون هذه الأمة بأنها كومة روث هائلة. لكنك ترين، أولئك الذين يفعلون ذلك، يقصدون الاستخفاف. أنا، بخلافهم، أجد السعادة في ذلك. إذا كان العالم ينتج الروث، فيجب أن يتراكم الروث في مكان ما. لذلك إذا كانت أمتنا هي بالفعل كومة روث العالم، فهذا يعني أننا نقدم خدمة للإنسانية. الآن هذا.. منظور. هل يجب أن أشير إلى شيء آخر؟
أومأت الباحثة برأسها.
ـــ أنا أنصت باهتمام، بابا د.
ـــ جيد. منذ اللحظة التي تحدثّت فيها معي عبر الهاتف، أدركت أنك لست باحثةً عادية. كان صوتك أشبه بصوت شخص حريص على التعلّم. أنصح جميع الناس. كل أنواع البشر الذين يمرّون عبر هذه الأبواب. ستندهشين، إذا ما قرّرت إخبارك، عن الأرواح المتناقضة التي جلست على هذا المقعد بالذات.
ابتسمت الباحثة بسخرية، وأشارت بعيداً عن العرض.
ـــ بابا دافينا، لهذا أنا هنا. سُمْعَتُكَ ليست ذائعةً في البلد فحسب، بل في كل القارة أيضاً.
ـــ آه نعم، ربما.
ـــ بل وما وراءها.
ـــ أوه؟ لذا قولي لي ماذا سمعتِ؟ أولئك الذين قادوا خطواتك إلى هنا، ماذا يقولون عن بابا دافينا؟
- من أين يبدأ؟، تنهّدت المرأة. حسناً، دعني أتناول المرشّح الأخير من سِيشِيل... صَلَّيْتَ من أجله، والعالم يعرف النتائج.
قام داڤينا بإيماءة استنكار للذات بيديه، محوّلاً إيّاها إلى أوعية ناعمة تنتهي براحاتِ يدٍ مقلوبة، كشخص أعطى السمعة _ والمجد _ في مكان آخر.
ـــ من أجلك، وضعت منظوراً... خاصاً.
وهو يتحدّث، بدا أن بابا د. يذوب في العتمة المحيطة، ولكن الغرفة، التي بالكاد تمكّنت من العثور قبل لحظات على مدخل ستارتها، أصبحت مشبعة تدريجاً بالضوء كما لو أنها استبدلت ضوء النهار الذي عتَّمَتْه للتو. ثبت أنها مجرّد بداية. تحت أنظار الباحثة، كانت قاعة التشاور الكئيبة تتحول إلى أَرْضِ جِنّ. اختنقت المرأة. وبدا أن مضيفها، الذي كانت إحدى ذراعيه ممدودة، يدور ببطء. كانت في يده أداة فضيّة صغيرة تتحرك أيضاً مع القوس الآخذ في الاتساع. من الواضح أنه كان يقف على هيأةِ صينية دوارة غائرة. صوب بابا د. قوّته نحو السقف، وكان هناك ضوء. بعد ذلك، نقرة أخرى غير مسموعة تقريباً وقرقرة ماء كسرت الصمت، وكشف مصدرها تدريجاً عن شق في صخرة صعدت بطريقة سحرية، نبع تتدفق مياهه المتلألئة في حركة هادئة، ثم تتسلّل إلى مغارة وتختفي إلى الأبد. مشهد متموّج من التلال و الوديان والسهول والهضاب، يتلألأ في آفاق بعيدة، بينما ارتفعت الأنابيب المضيئة الناعمة من الأرضية نحو السقف، غامرة الغرفة بلمعان مخدّر. تدريجاً لاحت قبة في المشهد، ثم أخرى مباشرة، وثالثة عند تسعين درجة، وأخيراً رابعة لإكمال التثبيت ثلاثي الأبعاد الناشئ. كانت القبب متباعدة بشكل متساوٍ، مما يرمز إلى اتجاهات البوصلة الأربع. على أرضية، مصنوعة من بلاط خشبي مصقول، شرعت خريطة كبيرة مدمجة للبروج في الإضاءة التدريجية آلياً. من طيات الشريط التي كانت بمثابة تتويج للممر عبر كل قبة، تموجت سحابة من الدخان نحو الأسفل، ثم بدأت تلتف حول جميع علامات الأبراج. كانت الباحثة مغطاة بمزيج من البخور.
سمعت صوت بابا داڤينا:
ـــ كنت أتحدّث عن وجهات نظر أخرى. كما ترين، إذا كنت تسكنين كومة روث، فلا يزال بإمكانك التأكد من أنك تجلسين فوقها. هذا هو المنظور الآخر. إنه ما يفصل بين أولئك الذين يتم استدعاؤهم من القطيع العادي. إنه يقع في صميم الرغبة الإنسانية.
تنهّدت الباحثة. كانت رحلة طويلة حتى هذه اللحظة، رحلة من التناقضات والاكتشافات المذهلة، الجسدية والعقلية. درست البروتوكولات الإلزامية للمتنبئين، جعلت نفسها في حالة امتثال تام، وصولاً إلى محتويات الظرف الوردي الذي أحضرته معها ووضعته رسمياً على طاولة مذبح صغيرة وُضعت عند مدخل المبنى. لم تسمح الحصة بالانحراف عن طقوس مرور الخَلاص، والتي كان من المعتاد اعتبارها عدداً مهيناً بسبب وضعها الاجتماعي. بعد كل شيء، استغرق تنظيم جلسة الاستماع هذه وقتاً طويلاً، لمدة عام كامل تقريباً، لم يكن هذا هو الوقت المناسب لتعريض الخلاص للخطر. في الطريق كانت قد شاهدت الزبالين يلقون نظرة خاطفة عليها، وينقلون نظرهم من التلال بحثاً عن الطعام إلى عين بابا داڤينا، كما لو أني أقول، آه نعم، في أحد هذه الأيام سنكون مؤهَّلين أيضاً لتسلّق تلك الخطوات المعبّدة النهائية وسيتم قبولها. في الغيب. لقد سمعوا كل شيء عنها، وسمعوا قصصاً عن التصميم الداخلي السحري الذي أدّى إلى التحول ــ مما أدى إلى تقويض السطح الخارجي للجدران المشقّقة والإسمنت المتصدّع. تسرّبت الأخبار وتطرقت إلى حياة الشوق مع تلميحات إلى المصير المتغير. بعضهم قامر دينياً على كرة القدم، والبعض الآخر لعب اليانصيب الوطني السنوي وأكثر، لكنهم اشتهوا تلك اللمسة الأخيرة من العصا السحرية ــ بركة بابا داڤينا. لقد حلموا باليوم الذي سيصعدون فيه هم أنفسهم الدرب المعبّد المكون من إحدى وعشرين درجة متلألئة ويدخلون ضمنَ تنبؤاتِه. سواء كانوا نشيطين أو حالمين، فقد جمعوا صوراً لروعة الناسك، الساحر المعروف باسم بابا داڤينا.

(*) مُفتَتَح الفصل الأول من الرِّواية، المعنوَن بِـ «أوكي كونران - إيموران»