لا أبالغُ في القولِ أنني أثناءَ إصابتي بفيروس كورونا اللعين، وفي اللحظاتِ الحرجةِ داخلَ المستشفى لم أفكّر بأحدٍ بعد عائلتي بمقدارِ ما فكّرتُ بصديقي جريس سماوي، كانت فكرةُ اللقاءِ به في العالم الآخر تخفِّفُ عني وطأةَ احتمالِ الرحيل عن هذه الدنيا الموحِشةِ المضجرةِ بلا الأصدقاءِ وبلا الفنِّ والأدبِ والشِّعرِ والموسيقى والغناء، وحقاً أقول إنني لم أعتدْ بعدُ عمّانَ بلا جريس، ولا أزالُ أرى أمكنتَنا المشتركةَ أقلَّ ألفةً وصداقة. فرحيلُ صديقِنا وشاعرِنا المُؤنسِ كان مباغتاً مثلَ طعنةٍ في الظهر. صحيحٌ أنّ الموتَ حقّ. وقد نشأنا على مقولةِ اللهم لا نسألُكَ ردَّ القضاءِ بل اللطفَ فيه، لكن غيابَ الأحبةِ يثلِمُ الروحَ ويتركُ فيها ندوباً لا تزولُ ولا تُمحى بمرور الأيام.جريس سماوي علامةٌ فارقةٌ من علاماتِ المدينةِ مثلما هو علامةٌ مضيئةٌ من علاماتِ القصيدة. حيث حلَّ تحِلُّ الروحُ الفيّاضةُ الأنيسة، المتمردةُ المشاكسةُ في الوقتِ عينِه. فبقدرِ ما كان الصديقُ فيه لطيفَ السلوكِ والمعشر، كان الشاعرُ مسكوناً بالهواجسِ والأسئلة، وكأني به يجمعُ الشكَّ واليقينَ في آن، الرِّجسَ والقداسةَ، النزقَ والرصانةَ، التهوُّرَ والحكمةَ، وسواها من ثنائياتِ النفسِ البشريةِ الأمّارةِ(في حالةِ جريس) بالحُبِّ والبحثِّ والرغبةِ باللاوصول لأن الرحلة أحياناً أجملَ من الاستقرارِ والركونِ والسكون.
الثنائياتُ في تجرِبَةِ جريس سماوي تُشكِّلُ سرَّ فرادتِهِ وتميُّزِهِ. هو العربيُّ المشرقيّ، والغسانيُّ الشاميُّ، والحضريُّ البدويّ، والفحيصيُّ العَمَّانيُّ، والأردنيُّ الذي عينُهُ على القدسِ وقلبُهُ على فلسطين، والمسيحيُّ الممتلىءُ بالإسلام، والإنسانُ الرحبُّ المنفتحُ على ثقافاتِ البشرِ في كل مكان، الرصينُ المشاكس، الحكيمُ المتمرد، والمسؤول الذي تحمّلَ وزرَ المسؤوليةِ في كلِّ مراحلِها ومراتبِها وأعطاها من عقلِهِ وقلبِهِ وفكرِهِ وضميرِهِ ووجدانِهِ، من دونِ أن تغيِّرَهُ المواقعُ والمناصبُ والألقاب. ظلَّ الشاعرَ المهجوسِ بالقصيدة، والعاشقَ الذي يُعلي شأنَ المعشوقةِ، والصديقَ الطيبَ الدمِثَ السخيَّ في محبتِهِ وترحابِهِ.
لا شكَّ أن الإقامةَ النيويوركية قد أضافت الكثيرَ إلى شاعرِنا الذي تفتّحتْ فُتوَتُهُ في واحدةٍ من أكثرِ مدنِ العالمِ تنوّعاً وحيويةً. فأحبَّ المهجريينَ وجبرانَ وشعرَ أنه يُشبهَهُ في كثيرٍ من الأمور، وخصوصاً في ذاكِ التضادِ الخصبِ المُوَلِّد بين الروحانية الكنسية والنزوعِ إلى الرفضِ والعصيانِ وعدمِ الطاعة.
تشبَّعَ جريس بكثيرٍ من الثقافاتِ والمعارفِ التي انفتحَ عليها وتفاعلَ معها، لكنه ظلَّ مسحوراً بموروثاتِ بلادِ الشامِ وبأساطيرِها، وبكلِّ ما يختزنُهُ الأردنُ من تنوِّعٍ وغنى إنسانيين، وهو القائلُ: «هذه الأرضُ روحي والماءُ مائي». وظلتْ طفولتُهُ وتربيتُهُ على يديِّ أمٍّ معلِّمة وأب شاعرٍ، ونشأتُهُ الأولى في بلدةٍ تحتفي بالشعرِ والشعراء، ظلتْ بمثابةِ سنامٍ يعودُ إليه كلما شعرَ بظمأ روحيٍّ وإنسانيٍّ في عراء عولمةٍ متوحِشةٍ مفترِسة. مثلما ظلّتْ قصيدتُهُ تميمةً تقيهِ تقلباتِ الدهرِ، ومنزلقاتِ المنصبِ والوجاهةِ. فالشعرُ كينونتُهُ وإكسيرُ وجودِهِ، يحرِصُ عليه حرِصَ أبٍّ على وحيدِهِ. لذا كان يشتغلُ على قصيدتِهِ اشتغالاً حثيثاً، فلا يتركُها على سجيَّتِها وشوائبِها الإنفعاليةِ الأولى، ولا يكتبُها عفوَ الخاطرِ، بل يُعيدُ صياغتَها كي تخرجَ إلى قارئها ومتلقِّيها مكثَّفةً مصقولةً ملأى بالمخزون الإنسانيِّ المعرفيِّ والثقافيِّ الذي يتميزُ به شاعرُنا.
لا يكتملُ كلامٌ على جريس سماوي من دون الإشارة إلى مكانةِ المرأةِ في حياتِهِ وشعرِهِ وموقفِهِ حيالها، بدءاً بأمِّهِ الجليلةُ مروراً بالأمِّ الحزينةِ وصولاً إلى المرأةِ الحبيبة. وهو الشاعرُ المؤمنُ بأنوثِةِ الكونِ وبتأنيثِ العالم، لذا شكَّلتْ المرأةُ في حالاتِها المختلفةِ ركناً أساسياً من أركانِ قصيدتِهِ، وإن ظلّتْ امرأتُهُ الشّعرية مزيجاً من واقعٍ ومُشتهى، حيثُ شرارةُ الواقعِ توقِدُ نار الأخيِّلَةِ. الكلامُ على جريس سماوي لا ينتهي، هو الذي دخلَ مدينةَ المعرفةِ ولم يخرجْ منها أبداً. جعبتي ملأى كما ذاكرتي كما قلبي بكلِّ ما يكشفُ جمالَ شاعرِنا. ولكن لا بدَّ من كلمةِ عزاءٍ لأسرتِهِ ومحبيهِ ومحبي شقيقِهِ الراحلِ سليم، ولا بدَّ مِن الشُّكرِ للأردن ولوزارةِ الثقافةِ وإدارةِ مهرجانِ جرش على هذه المبادرةِ الجميلةِ تجاهَ شاعرٍ لم نعرفْهُ إلا جميلاً مثلَ بلادِنا المقدسةِ بأنبيائها وشهدائها وشعرائها الأنقياء. فكم وزّع الفجرُ ضحكاتِنا الليليةَ على صِبيَة النهار.
وكم أجَّلتَ موتكَ كَرْمَى حبيبةٍ سمراءَ كَوَسَطِ البلد.
وكم امتزجَ فيك نزقُ العشّاقِ بقداسةِ يومِ الأحد.
فهل كثيرٌ على الشِّعرِ أن يبكيكَ الآن... وإلى الأبد.

ألقيت خلال ندوة تذكارية للشاعر الأردني جريس سماوي ضمن فعاليات مهرجان جرش في الأردن.