كنت قد بدأت العمل على مونتاج فيلم «بيت، اتنين، تلاتة» بعد لقاء أول مع ربى عطية مخرجة الفيلم. كان ذلك في عام 2018. وكانت ربى قد صورت فيلمها بعد رحلات عدة بين عمان ولبنان. أوضحت لي أنها سعت من خلال فيلمها للعودة إلى قصتها الشخصية، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بخيار والدَيها النضالي، مع اهتمام خاص بخيار والدتها حياة. لذلك كان قبل كل شيء فيلماً عنها وعن والدتها وعلاقتهما، حيث كان يدور حول التفكير في هذه الخيارات الوجودية وتحديد الصلة بين الهوية والذاكرة والمنفى والانتماء. هذه مواضيع مهمة لربى، فوالدتها حياة، على الرغم من نفسها، نقلت لها شعوراً بالغربة والخسارة، تعزّز لاحقاً بافتراقها عن زوجها، والد ربى. في البداية، شاهدتُ التصوير بمفردي وأدركتُ مدى تعقيد وثراء الموضوع، سواء من حيث الموضوعات التي تم تناولها، والجمالية المعتمدة التي تتطور بمرور الوقت، ولكن أيضاً وخصوصاً الشخصيات: ربى ووالدتها حياة.
لذلك تعرفت إلى حياة، أولاً من خلال هذه «الصور» المصورة. اكتشفت هذه السيدة في خصوصيتها من خلال عيون ابنتها. امرأة قوية تُشبع الصور والأماكن بحضورها الدافئ والأمومي. ولكن أيضاً، امرأة متواضعة جداً في ما يتعلق بحياتها الخاصة. في مواجهة أسئلة ربى، غالباً ما تظل حياة منفصلة وتجاوب بإهمال، غير راغبة بالانغماس في الماضي. إنها لا تفهم إصرار ابنتها وتسعى إلى حمايتها من إعادة الصياغة المتواصلة لحدث في الماضي، وهو أمر شرعي بالنسبة لها، لكنها لا تريد العودة إليه، لا سيما أن حياة تسعى إلى مشاركة دروس حياتها بالإضافة إلى قوتها التي تكمن في خياراتها ورؤيتها للحياة. يمكن أن نخمّن أن قوة حياة معجونة بالخسارات والشكوك والمعاناة والتضحية، ولكن أيضاً بالكثير من الحب للحياة ولعائلتها.
على الرغم من تحفّظاتها الأولية واحتياطها، تكشف حياة عن نفسها قليلاً. هي امرأة ذات شخصية، متمردة، ومرحة، عاشت حياتها كما أرادت بدون مساومة. كانت خياراتها السياسية، التي تتماشى دائماً مع رؤيتها للحياة، مصحوبة بتضحيات متعددة أثرت على حياتها الشخصية والعائلية. لذلك، من المستحيل التفريق بين حياة، زوجة، أم، أخت، بنت.... من حياتها المهنية كمناضلة وكاتبة ومعلمة، وقبل كل شيء محامية. في الواقع، درست حياة، الطالبة المتفوقة، القانون في لبنان لكنها لم تكن قادرة على ممارسته لأنها اضطرت إلى الفرار من البلاد خلال الحرب اللبنانية واستقرت في عمان مع زوجها وطفلَيها.
هذا الفيلم الوثائقي، الذي يمزج بين الحميمية والحس الجمعي، بُني ببطء ورافقته نقاشات طويلة خلال العملية. غالباً ما ابتعدنا عنه لنرى الأشياء بشكل أكثر وضوحاً. أزلنا الفوائض والتفسيرات الكثيرة لإعطاء الوقت للتأمل وللمشاعر. لقد أفسح الهيكل الفوضوي في البداية المجال لهيكل زمني إلى حدّ ما، متسلّلاً بالذكريات والمشاهد الخيالية المستبطنة في اللاوعي والانعكاسات الشعرية.
افتتح الفيلم في منزل العائلة في عمان. ربى، المقيمة في بيروت، تزور منزل والدتها، التي تكمل علاجها بعد إصابتها بسرطان ثانٍ. في مواجهة المرض، رأت ربى أن هناك ضرورة ملحّة للتصوير والأرشفة والفهم والقيام بهذا العمل التأملي. لذلك يركز الجزء الأول على المحادثات الصعبة مع والدتها في عمان. ربى تحاول تفكيك ذكرياتها وفهمها. ترى حياة هذه العودة إلى الماضي بشكل سلبي وتصبح العلاقة بين الأم وابنتها أكثر تعقيداً. بالإضافة إلى ذلك، تصرّ حياة على عودة ابنتها إلى عمان، لكن ربى في المقابل ترغب في مواصلة رحلتها بعيداً عن ظلّ الأم، لكن في المكان الذي حصلت فيه قطيعة في حياة الأم، في بلدها.
عادت ربى بعد ذالك إلى لبنان لحاجتها لأخذ خطوة للوراء ولكن أيضاً لإكمال هذا العمل الاستبطاني بمفردها. وفي الوقت عينه، مواجهة وفاة والدها. في هذا الجزء الثاني، الذي تدور أحداثه بين بيروت وقرية حياة في جبل لبنان، يأخذ الفيلم منعطفاً أكثر انعكاساً وخيالية وشعرية. ربى تتعمق أكثر في الماضي. ومن خلال المشاهد الخيالية، تعيد بناء ذكريات من طفولة والدتها كي تفهم بشكل أفضل أصل أوجاعها، لكن أيضاً أصل قوتها. وأمام حياة الصغيرة المتخيلة، تكون ربى حاضرة كشخصية أم لأمها من خلال وجودها كمخرجة أمام الكاميرا. وهكذا تحاول من خلال هذه العملية الإبداعية غير المسبوقة حماية والدتها رمزياً وتضميد جراح الماضي من خلال تنظيمها وتتابع عرضها في الفيلم.
في الجزء الثاني، يقلّ حضور ربى الجسدي، لأنها هي التي تقوم بالتصوير. من ناحية أخرى، يحضر صوتها طوال الفيلم يلقي نصوصها الخاصة ويستحوذ على الصور ويرافقها: ذكرياتها، وأحاسيسها، وأفكارها تضفي الكثير من الشعر والعمق في الفيلم، وتضاعف المعنى والقراءات الممكنة. حضور حياة الكامن وراء النصوص يحضر في الزمن الذي يسير بنا إلى أن تهدأ التوترات بين المرأتين. وعندما تعود حياة من حين إلى آخر إلى بيروت للمشاركة في مناسبات مختلفة (توقيع كتابها، برنامج سياسي ومؤتمر) ترى ربى في هذه العودة فرصة للتعرف إليها بوعي جديد والتصالح معها.
من خلال ذكريات ربى ووالدتها، منذ الطفولة وحتى يومنا هذا، يتم بناء تاريخ العائلة، لكنه يكشف أيضاً في الخلفية عن كل السياق التاريخي والسياسي الإقليمي: من الحرب في لبنان (من 1975 إلى 1990) حتى الأحداث في سوريا. سياق مهم داخل أمة بلا تاريخ (تاريخ لبنان، بعد استقلاله، لم يكتب رسمياً أبداً). إذاً يصبح هذا الفيلم جزءاً من سلسلة أفلام لبنانية أخرى تسهم من خلال قصصهم في كتابة هذا التاريخ، خصوصاً أنّه يسلط الضوء على سقوط القضايا الجماعية الكبيرة، والأحلام القومية والعلمانية العظيمة، وانهيار حلم الجيل اليساري في سبعينيات القرن الماضي نحو تصميمات أكثر تقييداً وفردية.
من خلال إعادة قراءة الماضي، وفهم الاشتباك العضوي المستمر لحياة، تسعى ربى لأن ترى ما تأخذ من اختيارات والتزامات في السياق الحالي، سواء أكان من الناحية العامة أم العلاقية (الخاصة) أم العائلية: ما هي التضحية التي هي مستعدّة لتقديمها؟ وما هي الدروس التي يجب تعلمها من معارك والدتها؟
كانت أهداف هذا الفيلم عديدة. كان الأمر يتعلق بإيجاد توازن بين طبقات الأحداث والذكريات المختلفة، وهو نوع من المحاولات اللانهائية ذهاباً وإياباً لإنقاذ ما ضاع حتماً. كان الأمر أيضاً يتعلق بالسرد من دون فرض نسخة، والبحث عن معنى من دون فرض حقيقة، والحديث عن الخاص أثناء الحديث عن الجمعي، والجمع بين التأمل والشعر والعاطفة. وبعد الواقعة، يبدو لي أنه كان أيضاً بشكل أساسي إنصافاً لسيدة عظيمة تركتنا في وقت مبكر جداً. هل نجحنا؟