ما من قريةٍ من قرى سوراقيا، بلاد الأرجوان وجلجامش وحمورابي وسرجون ونبوخذ نصر، ونينوى، أول الإيقاعات، وأوغاريت، أول الابجديات، وآرام، أول الممالك التي قامت على حد الكلام أكثر من حدّ السيف، إلّا وعرفت شجرة الأمنيات والمباركين ولغة الألوان.من شامانات الصيد والنّساء، إلى صابئة الماء وحرّان، ومن كهنة النار ومعابد إيل في الجبال، إلى بصرى وأولياء الله على درب محمد.

أشجارٌ هنا وهناك، ومباركون من كلّ المِلل والنحل والمريدين والأديان، ينتظرون النساء في يومٍ موعود: سلالٌ عامرة بالحنطة والزبيب والغلال، ومناديلَ من كل الألوان، تُربط بالأغصان ويتلو عليها المباركون، آباء وقسّيسون، صوفيّون، أو كهّان، ما تيسّر من التّمائم أو ما يعوّل عليه من نصوص التبريزي وابن الرومي والشيخ الأكبر، محي الدين، أو من ترانيم العهد الجديد، هلّلويا، أو آياتٍ من الذّكر الحكيم والمعوذات بربّ الناس من كلّ وسواس.
يغيب المباركون قليلاً في حضرة القدّوس والرحمن: السلام عليك يا مريم، لبيك يا زينب، ويدان كما أفلاطون وأرسطو، بين الأعلى والأسفل حيث تُستكمل دائرة الوجود، الله حيّ... وسع كرسيه السّموات والأرض وما بينهما ولا يؤوده حفظهما.
لونٌ للعاقر حتى تُنجب، لون للغائب حتى يعود، لون للحقول حتى تفيض بالسنابل، وللكرمة حتى تطفح بالعناقيد وتفرح قلب الإنسان.
لونٌ لدرءِ الحسد وجيد المسد والغاسق إذا وقب.
لونٌ للمطر والغيثيّات: يا ام الغيث غيثينا، بلي زريع راعينا
لون للملقنين والأسماء السريّة زمن الشامانات، وللمعمّدين والمختونين زمن الأنبياء.
لونٌ للمغامرين والقوافل في الرّمل البعيد حيناً، وحيناً في لجّة الماء .
لون، ولون، ولون... بقدر الأحزان والأمنيات والضّارعات لـراكب الغيوم.
فأيّ كثرة مباركة هذه، تستلهم شجرة الحياة والمعرفة في بستان القدير، وقد أودعها مفتاح الأسماء كلّها، ثم استوى على العرش المكين وفاضت كلمته على العالمين، زلفى وبشارة ونعمة، لا خطيئة أبدية، كما صخرة سيزيف وسفر التكوين، ولم تكن الأساطير وشجرة الألوان غير ظلّ ظليل لمشيئة الباري على الأرض.
من رتق الفوضى، كن فكان، اللوغوس الأول، حكمة الماء والنار والطين، سوراقيا، أول الغمر والبر والطير وأول الهابطين من سفينة نوح بعد الأربعين، قلب الكون، ربوة الربوات، من أرض كنعان إلى شرق الفرات وشجرة الأمنيات.
ذلك، ما أدركه سعادة وهو يكرز في السوريّين ويحمل في «نشوء الأمم» رسالة شعبٍ عابر للمذاهب والأعراق والسّلالات، ويزرع بالحبر والدّم كما الأوّلين في أور وأريحا وأوغاريت، شجرة الحياة، حروفاً وكلمات.
فالرّسالات الكبرى، لا تأتي هكذا وكيفما اتفق، أو حتمية عمياء، أو بانتظارٍ كسول لمخلّص كما غودو، الذي لا يأتي لأنه لم يكن يوماً.
فيا لدرب الآلام الطويل والقربان الحي، من جيلٍ إلى جيل، يصعدون المشانق كما زقورات بابل وينزفون دمهم في كأسٍ بلا قرار، ومن أجل نيسان بعد نيسان يصنعون وقفات العز والإنسان.
وفي كلّ ذلك، ليس بستان هشام في الشّام (من لا يذكر فيروز هنا) بستان سعادة بالبستان الرّيان، هكذا وكيف ما اتفق، وليست أشجاره على حدّ سواء، وليس ما تعصف به الرّياح بين الحين والحين وتذروه الأيام، يعود كما كان.
فثمّة ما لا يُعوض إلا في ذكراه، يمكث في الأرض كما الماء، وما عداه كما رمل الطريق والزبد يذهب جفاء .
وما أندر ذلك، كما الدكتورة حياة في حروبها الخمسة على متراس الأمة:
• حرب على جبهة الإعلام وجيلها الخامس والسادس وساحاتها المدجّجة بالمال والأكاذيب، من فضائيّات النّفط والغاز إلى ثورات مزوّرة اختطفت جوع الناس وقهرهم وتوقهم إلى حريّة لا لبس فيها، ضدّ الإمبرياليين والغزاة والرجعيّين ويهود الخارج والداخل، سواءً بسواء.
• حربٌ على جبهة الثقافة، من المسرح إلى الترجمة والنقد الأدبي والفلسفة، ومن العقل المستقيل إلى الوضعيّة المبتذلة.
• حرب على جبهة الكرامة في زمن الانحطاط والهوان، فما طأطأت رأسها ولا هانت، وعلّمتنا كيف يظلّ البامبو واحداً متّحداً، إذ يميل قليلاً بين الحين والحين لكنه لا يلين.
• حربٌ على جبهة الذات، فأصعب الجهاد كما قال الياس مرقص، جهاد الذات.
• حربٌ على جبهة الأمل، آخر الأشياء الطّيبة في صندوق باندورا ونار بروميثيوس من أجل الإنسان.
ما أندر الدكتورة بين الرجال والنساء في بستان سعادة، وشجرة الألوان والحروب الخمس: المعرفة، القوّة، الأمل، وفي اللّونين الرابع والخامس مفارقة الأسماء، الحياة والعطاء، حيث لا مصادفات وراء الأشياء عند غازلات المصير.
ربّما لا تضن الحياة علينا بلونٍ أو لونين أو ثلاثة، ولكنّها نادراً وقلّما منحتنا ألوانها الكاملة، وإن فعلت فليس كلّ الوقت.
الدكتورة، وقبلها الزعيم، كمال خير بك، ناجي العلي، غالب هلسا وغيرهم، كأنما على إنسان الألوان الخمسة أن يدفع حياته ثمناً لاستكمال حضوره في الغياب.