ما شجَّعني على قراءة رواية «شوغى بين» Shuggie Bain للروائي الإسكتلندي الأميركي دوغلاس ستيورات Douglas Stuart هو كاتبها الذِّي يشتغلُ في مِهنة الأزياء إلى جانبِ الكتابة، أكثر شيئين أحبِّهما حتَّى وإنْ كانا يختلفان كلياً عن بعضهما، علماً أنَّ القراءةَ تمنحُنا شيئاً من الرفاهية والجمال، بعيداً عن كونها عملاً أدبياً. المُطلَّعَ على الرواية ستُرعبُه أحداثها الضاربة في شتَّى أنواع البؤس والمُعاناة، والتي استطاع دوغلاس أنْ يُصوِّرها ببراعةٍ ملفتة، وبشكلٍ دقيقٍ جداً، إذْ أنَّ بعض المَشاهد من الرواية تُنسيك أنكَّ تقرأ، بلْ تجعلكَ بشكل ما، ترسمُ مشاهد في ذهنك لتلك الأحداث المؤلمة، تشعرُ وأنَّ الكاتبَ لا يكتبُ روايةً من نسيج خياله، بلْ يسرد معاناة حقيقية تكاد تكون جزاء من سيرته الذاتية، خاصَّة أنَّه أهدى الرواية لروحِ والدته التي توفِّيَت، عندما كان في عمرِ السادسة عشر جراءَ الإدمان. لقد كتبَ الرواية ليحاول التخلصَّ من الماضي المؤلم الذي عاشَه في ثمانينات القرن الماضي في مدينة غلاسكو في اسكلتندا، هذه المدينة التي استحضرها روائياً ليتحدثَّ عن التهميش والظلم والأزمات الاقتصادية، وكل المشاكل التي كانتْ تتخبَّط فيها. لم يكتفِ بذلك، بلْ صوَّر بدقَّةٍ بالغة تلك المعاناة التي انعكستْ على حياة الأُسَرِ والمجتمع، وكيف يُمكن أنْ ينشأ الأطفال في خِضمِّ كلٌِ هذا، خاصَّة عند انفصال الأبوين وما ينتجُ عنه من تشوُّهات كثيرة تُعيقُ نشأتهم بشكلٍ صِحِّي وسليم، كإدمان الأمِّ للخمرِ ولعبِ الورق والتدخين، وقسوة الأب.كلّ هذه الأسباب أدّتْ إلى انفصال الأم عن زوجها وأولادها، وبقي معها فقط «شوغي» أصغر أبنائها؛ لتعلُّقه الشديد بها؛ ولأنه أرادَ مساعدتها...
رواية «شوغي بين» في حقيقة الأمر وقبل أن تكون عملاً إبداعياً يمنحُنَا قدراً كبيراً من الدهشةِ ويُعيد صياغةَ مفهوم الألم لدينا، هي أيضاً انتصار للفئات المُهمَّشة في كلِّ العالم، تلكَ الفئاتُ التي تُعاني من الفقر والحِرمان، وكلْ أنظمة الفساد التي تحاول أنْ تنتزعَ من الإنسان إنسانيته وتحوله إلى كائن لا حول له ولا قوة.
صحيح أن« شوغي بين» تصوَّر فترة زمنية مرَّتْ على بريطانيا في ظلِّ حُكم رئيسة الوزراء البريطانية مارغيت تاتشر، وما نتجَ عنه من طائفيةٍ وظلمٍ وتدهورٍ اقتصاديٍّ مسَّ بالطَّبقة العاملة الكادحة، إلَّا أنَّها كما ذكرتُ سابقاً تصويرٌ لحياةِ الفئات المُضطهدة وصوتها الذي بالكادِ يُسمع.
إنَّها رواية التفاصيل المكتوبة والمصوَرة بدقَّة كبيرة، التي تكاد تكون_ التفاصيل_ لوحدها روايات أخرى، وتعرية لواقعٍ هشٍّ؛ نحاولُ أنْ لا نأتيَ على ذكره ونتجنَّبه وكأنَّه لا يعنينا.
قوَّة الكاتب في هذا العمل ليس انتصاره لأبناء الهامشِ فحسب، بلِ انتصاره للتفاصيل التي خلقَ منها أحداثاً يستحيل أنْ تغادركَ بمجرَّد انتهائكَ من القراءة.
ولعلَّ هذه الميزة بالذَّات هي التي مَكَّنتِ الكاتبَ من أنْ يجمعَ مِهنة تصميم الأزياء والكتابة، وهي ميزَةُ الانتباه للتفاصيل، تلكَ التفاصيل التي كان يروي من خلالها شوغي إدمان والدته وكيف تأتي إلى البيت، وكيف يصفُ لباسها وكل شيء بطريقةٍ مُذهلة ومُرعبة في الوقت ذاته! فسردُ تلكَ التفاصيل المؤلمة ناتجٌ عن مقدرةٍ كبيرةٍ في استحضار الماضي، ليصنعَ روايةً تحكي ذلك الماضي، حتَّى وإن كان الحاضر مُختلفاً وجميلاً، إلَّا أنَّ الماضي هو مَن جعلَ دوغلاس يكتبُ عملاً إبداعيّاً حقيقياً، نالَ عليه جائزة بوكر العالمية.
إنه ماضي الطفل دوغلاس، ماضٍ صنعَ منه بطلًا اسمه «شوغي» الذي استطاع أن يشفيه من ماضيه الذي تشاركه معه، ولعل هذا ما تطرق إليه أوسكار وايلد حين قال: «لعلَّ الكثيرين ممَّن يعتبرون أنهم على درجةٍ عاليةٍ من الثقافة والمعرفة يَحملون على مدى حياتهم خلفيةً واسعة، قد اكتسبوها في طفولتهم». خلفية الكاتب هنا ليس المعرفة فقط بل تجاوزها إلى معرفةِ كيف يكون الألمُ في صدقه المطلق، إذ أنه وصفه ببراعة.
أحياناً بقدر ما تكون الرواية مسترسلة في وصف قذراة المُجتمعات من الداخل بقدرِ ما تجد طريقها إلى أكبر شريحة من القُراء؛ لأنَّ كل واحد منا سيرى فيها موقفاً تعرَّض له أو حالة عاشها عن قربٍ لأحدِ المقرَّبين منه أو معارفه، وإن لم تكن بنفسِ درجة البذاءة والبؤس التي في العملِ الروائي، فلا تخلو الحياة من الآلام، ولا يوجد أحدٌ لم يتعرض للألم، خاصةً إذا ما تعلَّق بالعلاقات الأسرية المفكَّكة نتيجة الإدمان على الكحول وكل ما ينتج عنه من مشاكل نفسية قد تكون آثارها كبيرة على الأسرة، إضافة إلى الفقر والانحدار الأخلاقي، تُرى في خضم كل هذا كيف سينشأ الأطفال وكيف سيكون تعاملهم مع الواقع الأسري المفروض عليهم؟!
لعلَّ كلّ هذه الأسباب وأخرى ما جعلت رواية Shugie Bain تحصد جائزة بوكر العالمية للعام 2020 بإجماع اللجنة التي كانتْ برئاسة الناشرة والكاتبة مارغريت بوسيي.
شوغي بين رواية عن الحرمان، الفقر، وعن معاناة الطَّبقة العاملة، ومأساة الأطفال في الوسط الأسري المفكَّك وكيف يؤثر ذلكَ سلباً عليهم.
رواية عن الحب، ويتجسَّد من خلال حبّ البطل اللامشروط لأمه. رواية كما قال عنها كاتبها بأنه يريد أنْ يمنحَ الآخرين المواساة من خلال مواساته هو لنفسه في هذا العمل؛ الذي تطلَّب منه عشر سنوات لكتابته، وقد قوبل بالرفض في بادئ الأمر من 10 دور نشر، لكنه في الأخير فاز بأهم جائزة، ليصلَ عمله إلى أكبر شريحة من قراء الأدب في كلِّ مكان، وهذا ما يؤكد دائماً على صدقِ وأدبية الأدب الحقيقي الذي يحملُ رسالةً للإنسانية، والذي يتجاوز كلَّ العوائق، ليقولَ كلمته ويمضي.