في قصة «ثلاث صور» القصيرة، يشرح غسّان كنفاني، كيف أنَّ الأحلام هي عبارةٌ عن توقيت أكثر من كونها أي شيءٍ آخر. تنتظر البطلة الطفلة هديتها الأثيرة: بنطال أحمر، لكنّ الهدية نفسها سرعان ما تفقد قيمتها الفعلية، حينما نعرف بأن الفتاة قد تعرضت لبترٍ في الساق، مما يجعل الهدية بلا قيمةٍ فعلية أو كما يعرف باللغة الإنكليزية obsolete، أي بلا جدوى. اليوم وفي ميلاد كنفاني، تعود فكرة «الجدوى» إلى الواجهة من خلال كل شيءٍ حول الشعب الفلسطيني بحد ذاته: انتخاباتٌ لا تعني أحداً للا بمقدار مشاركيها ومحازبيهم ومن لف لفيفهم. تطبيع عربيٌ محموم، من رأس الهرم إلى أسفله، قضيةٌ تتأرجح بين النهاية والنفس الأخير، وبالتأكيد شعب فلسطيني منقسمٌ حول ذاته بدون أي إدراك لنهايةٍ قريبة.
في رواية «رجال في الشمس»، يشرح كنفاني كيف أنَّ الإهتمامات الرئيسية للشعب الفلسطيني كانت في الخروج من «الجحيم» المفروض عليه بكل الطرق، وأنّه «يطرق» جدران الخزان، لكن ليس من أحدٍ يستمع إليه. اليوم وبعد سنواتٍ طوال: لايزال الفلسطينيون يقرعون جدار الخزّان ثقيل الدم والظل معاً، كما لا تزال النتيجة ذاتها: لا أحد يسمع أو يستمع. المشكلة كما أراد كنفاني أن يشير إليها هي أنَّ الموضوع مرتبطٌ بزاوية الرؤية والجدوى ذاتها: ما الفائدة إن «قطعت أطرافك» وأنت تطرق جدار خزانٍ لا يريد صاحبه أن يستمع إلى صراخك. في الإطار نفسه، يشير محمود درويش إلى نظرية «يريدونني أن أموت لكي يمدحوني» وأن الفلسطيني «الجيد» هو الفلسطيني «الميت» كما يحببه إخوته، إخوة النبي يوسف الذين أشار إليهم «وهم سمموا عنبي يا أبي» في قصيدة «أنا يوسف يا أبي». إنها صورة الفلسطيني بحد ذاته، التي يريد «الآخر» خلق جدوى خاصة به حولها: إما ينفذ الفلسطيني ما يريدون ويلبس الثياب التي يريدونه أن يلبسها، أو يفقد جدواه. المشكلة أنه متى ما فعل ما يريدونه، فقد «جدواه» الخاصة. من هنا خلق أبوعمّار معادلة «جدوى الفلسطيني الخاصة»، أو «القرار الفلسطيني المستقل» ولو «يصبح الأمر تطبيقياً» لكنه كان «ذا جدوى فلسطينية خاصة» كما أشار ناجي العلي ذات مرّة.
اللافت الدائم في أدب غسان كنفاني، هو حديثه عن الجدوى في كل التفاصيل: مثلاً في رواية «عائد إلى حيفا»، يشرح جدوى الاستمرار بالتمسّك بأقل التفاصيل، لأنه في اللحظة التي تختلط الصور، وتصبح كل الأشياء غير واضحة، التفاصيل الصغيرة، هي التي تبقى وتحافظ على تماسك الصورة ككل. بمعنى إهتمام الجدّة مثلاً بأدق تفاصيل حفيدها، من الوشاح الذي كان يرتديه، إلى الغطاء الذي كان عليه إبان ضياعه. هذه التفاصيل، ظلت تسكن لا القصة فحسب، بل أي قارئٍ يتابعها. إنها التفاصيل الصغيرة التي تعطي جدوى للحدث الكبير. يأتي اللقاء بين الجدّة والحفيد ليرسم صورةً أكثر وضوحاً وينتظر القارئ كما الجدة جدوى تلك التفاصيل التي تكوّن الصورة كاملة. الأمر نفسه ينسحب على رواية «موت سرير رقم 12» التي نرى فيها جدوى من نوعٍ آخر مختلف. إنها الأسئلة التي «نجد لها لظروفنا» أجوبةً خاصة، هي ليست أصلاً الأجوبة الحقيقية لتلك الأسئلة، لكنها تريح والأكثر أهمية أننا نصدّقها. إنها أجوبة الأم/ الجدة الفلسطينية لأبنائها/ أحفادها حول العودة وفلسطين ومفاهيم المقاومة. كيف تفسّر أمٌ فلسطينية اليوم هذه المفاهيم، لأجيال الانترنت والتليفون الذكي؟ بحسب دراسة للجامعة العبرية، فإن القضية الفلسطينية كان من المفترض أن «تنقرض» في الأعوام 2012-2015، لماذا؟ لأن أجيالاً جديدة –بحسب الدراسة- ستخلق بعيدةً كل البعد عن مفهوم «الصراع» وأصله. لم تنته القضية، لأنه بحسب كنفاني، الأجوبة «التي اخترعتها الأم الفلسطينية» جعلت الاستمرارية فعلاً حقيقياً. إنها ذات الفكرة التي يقاربها محمود درويش أيضاً، حينما يشير إلى أهم فكرة في القضية الفلسطينية، أنها «قضية محكية/مروية» قبل أي شيء: «تكلّم، تكلّم، لأسند رأسي على حجر، لنا وطنٌ من كلام». هذا الوطن الكلامي، كانت ميزته الخارقة بالنسبة لكنفاني في غير موضع أنّه «محمول في العقول والقلوب قبل أي شيء». إنه «الوطن ألا يحدث كل هذا يا صفية» الجملة التي أستهلكها رواد الانترنت، والتي ما عرفوا بأنَّ كنفاني وضع فيها أهم اسراره: الوطن، بمفهومه الفلسطيني الكنفاني، يحدث حينما لا يحدث كل ما حدث. إنها الجدوى في أبرز صورها: إن جدوى كل ما حدث أن يعلّمنا بأن كل ما حدث «صار» لأنه لا وطن حتى اليوم، وما أن نصل بدواخلنا إلى مفهوم الوطن، ستصبح إمكانية حدوثه «واقعاً»، واقعاً محسوساً مطبقاً قبل أي شيء.