تونس | يُعتبر المثقف من منظور الفيلسوف جان بول سارتر، هو ذلك الذي يدسّ أنفه في ما لا يعنيه. رغم أن التعريفات متحركة في الزمان والمكان، إلا أن السلطة في تونس تشاطره الرأي تماماً فتعتبره مزعجاً لها، وتطالعنا أجهزتها في كل مرة بتصريحات محقّرة ومهينة له، تضعه موضع المهرج أو ذاك الذي لا فائدة تُرجى من وجوده. فهذا والي تونس العاصمة الشّاذلي بوعلاق يرى أن التظاهرات الفنية هي بلا أي هدف يُذكر. تصريحه هذا جاء على خلفية احتجاج الفنانين التونسيين على منعهم من إقامة الحفلات والتظاهرات الثقافية في مقابل منح رخصة لحزب سياسي متمثل في «حركة النهضة» بغية تنظيم مسيرة ما سمّته «دعماً للشرعية الانتخابية» بأعداد غفيرة ومن دون اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لتجنّب تفشي وباء كورونا. بعد ذلك، اضطر الوالي لتقديم اعتذار بسبب اللغط الذي أحدثه تصريحه الجارح والمهين، فأوضح أنّه كان يقصد أنه يمكن تنظيم الحفلات عن بعد في ظل الوضع الصحي.عازف الناي والفنان رامي عرابي يقول معلّقاً وساخراً من الواقعة إنّ وجود الوالي هو الآخر دون هدف أيضاً ودعاه إلى تعلم الموسيقى كي يدرك أهمية الفن والفنانين.
لم يكن تصريح الوالي يتيماً. ففي لقاء تلفزيوني مباشر معه، اعتبر رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي أنّ دور المثقف هو الترفيه أو كما عبّر عنه بالعامية التونسية «التفرهيد»! هكذا يُنظر إلى الفنانين بصفتهم مهرّجين في مسرحية تراجيدية. لقد اختزل دورهم في الترفيه عن الشعب، ما يكشف عن قصور نظر لدى رئيس الحكومة الحالي تجاه دور المثقف والثقافة عامة. تصريحات تدعونا إلى التفكير في جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة التي ما انفكت تُطرح للنقاش في كلّ الأزمنة، خصوصاً في وقت الأزمات والثورات.
ويمكن القول إن تجويع الفنانين في تونس وإهانتهم يشكّلان إحدى طرق لجمهم وكسر «شوكتهم»، فلا يمكن تقديم أي إضافة أو مساهمة ببطون خاوية. وهنا نستحضر اعتبار إدوارد سعيد المثقف «شخصاً نخبوياً» يهدف إلى استنهاض مجتمعه، وينخرط في التغيير عن طريق إبداع أفكار وخلق ما له تأثير وكذلك من خلال المشاركة في خدمة الشأن العام.
أما في تونس، فيبدو أن صورة المثقف ظلت حبيسة التطبيل تارة، وإزعاج السلطة طوراً. ومع مرور الوقت، صارت في الذهنية التونسية أيضاً مجرد مهرجانات وبساطاً أحمر يُمَدّ في شارع الحبيب بورقيبة وتهريجاً في القنوات التلفزيونية. ومع تفشّي الكورونا، لم يستطع المثقفون ــ رغم الرقمنة ـــ الصمود طويلاً أمام وضع اقتصادي واجتماعي هش. هكذا، لجأ بعضهم إلى بيع آلاته الموسيقية، ومنهم من ترك بيته لعدم قدرته على سداد الإيجار وغيره من الالتزامات المادية خلال الأزمة الصحية.
وطيلة أشهر الكورونا الماضية، تراجع المنتج الثقافي في تونس وتأجّلت العديد من التظاهرات الدولية، ما أدى إلى أزمات خانقة للفنانين على اختلاف مجالات عملهم. ولم تكن أزمة كورونا سوى ذريعة عرّت انعدام احترام الدولة للمثقف والوضع الهش الذي يعيش على وقعه، كامل أيام السنة في انتظار منّة الدعم من وزارة الشؤون الثقافية.
لجأ بعضهم إلى بيع آلاته الموسيقية، ومنهم من ترك بيته بسبب عجزه عن سداد الإيجار


ومنذ أيلول (سبتمبر) الماضي، دخل الفنانون في إضرابات في أكثر من مناسبة بعد توقف الأنشطة الثقافية، منذ قرار تمديد حظر التجول ليلاً لاحتواء فيروس كورونا، من دون توفير بدائل لعائلات يتأتّى مورد رزقها الوحيد من هذا المجال. من جهتها، طالبت «النقابة التونسية للمهن الموسيقية» في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بالدخول في اعتصام مفتوح في ساحة الحكومة في القصبة من أجل الضغط على حكومة هشام المشيشي. وككل الاحتجاجات في تونس هذه الفترة، تمّ استخدام الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين وقمعهم.
وتم إقرار إعادة جدولة ديون الفنانين والمبدعين والمؤسسات الثقافية، تحت بند «انخراط في منظومة الضمان الاجتماعي»، علاوة على مضاعفة الراتب التقاعدي للفنانين والمبدعين والمثقفين المشمولين في نظام التغطية الاجتماعية الخاص بالحقل الثقافي. وهنا أيضاً نذكر أن أغلب الفنانين لا يتمتعون بتغطية اجتماعية لعدم استقرار رواتبهم وشحّ الأعمال الفنية والدعم ككل. وعموماً في تونس، ينتهي الفنان وحيداً في المستشفى وعاجزاً عن سداد احتياجاته حتى يباغته الموت.
وكقطاع الإعلام والصحافة، يشكو القطاع الفني من الطفرة الكمية وقلة الجودة وعدم التمييز بين الفنان والمتسلّق، بخاصة في قطاعَي السينما والمسرح.
وقد تعاظمت الأزمة بسبب الشغور الوزاري والأزمة بين رأسَي السلطة التنفيذية (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة) والتي كان مردّها إلى اختيار رئيس الحكومة هشام المشيشي وزراء تحوم حولهم شبهة فساد وفق رئيس الجمهورية قيس سعيد. من جهته، رفض المشيشي تغيير التشكيلة المقترحة لتظل وزارة الشؤون الثقافية كغيرها من الوزارات معطّلة عن العمل، ولا ضيم في هذا الشغور إذا ما كانت الرؤية الثقافية منعدمة كذلك، ولا حظوة إلا للبؤس.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا