ربّما باتت لدينا إجابة عن سؤال محمود درويش الوارد في قصيدته «طباق» التي كتبها في رثاء إدوارد سعيد (1935 – 2003): «هل كتبت الرواية؟/ حاولت/ حاولت أن أستعيد بها صورتي/ في مرايا النساء البعيدات/ لكنّهن توغّلن في ليلهن الحصين/ وقلنَ: لنا عالم مستقل عن النص/ لن يكتب الرجل المرأة اللغز والحلم/ لن تكتب المرأة الرجل الرمز والنجم/ لا حبّ يشبه حباً/ ولا ليل يشبه ليلاً/ فدعنا نعدّد صفات الرجال ونضحك/ وماذا فعلت؟/ ضحكت على عبثي/ ورميتُ الرواية في سلة المهملات/ المفكر يكبح سرد الروائي/ والفيلسوف يشرّح ورد المغني». وإذا أردنا أن نكون أكثر دقّة، فإن سيرة «أمكنة العقل: حياة إدوارد سعيد» (دار بلومزبيري) التي أعدّها وكتبها تيموثي برينان عن المسار الفكري والسياسي للناقد والمفكّر الفلسطيني الراحل، تحمل إجابات عدّة، عن تجربة سعيد الأدبية غير المكتملة. برينان الذي كان أحد طلّاب سعيد، والذي يشغل الآن منصب أستاذ الأدب المقارن في جامعة مينيسوتا، يضع بين أيدي القرّاء معلومات تفصيلية تكشف للمرّة الأولى عن حياة إدوارد سعيد، بالاستناد إلى شهادات العائلة والأصدقاء والطلاب والخصوم على حدٍّ سواء. كذلك، يعود إلى ملفّات مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) عن سعيد، لكن أكثر ما يميز هذه السيرة هو نجاح برينان في الوصول للمرّة الأولى إلى بعض المسودات الروائية والشعريّة والقصصيّة التي كان سعيد قد شرع بكتابتها منذ أن كان لا يزال في الـ 22 من عمره. ظلّت هذه التجارب سريّة وخاصّة بسعيد بنفسه، تقبع ضمن أرشيفه الخاص، فيما أعلم بعض أصدقائه أنه مزّق مسودّاته الروائية. تلك التجربة التي ذكرها الناقد الأردني محمّد شاهين في سيرة كتبها عنه بعنوان «إدوارد سعيد: رواية للأجيال» كأمنية شاركه إياها سعيد ذات مرّة: «أمنيتي أن أنسحب من العالم لأكتب رواية»، تخلّى سعيد عن إكمالها منصرفاً إلى المعارك الثقافية والسياسية والفكرية التي كان يخوضها. لا تنفصل هذه التجارب وفشلها عن هموم سعيد السياسية التغييرية. لعلّ صاحب «الثقافة والإمبريالية» (1993) وجد أن «هناك فشلاً في مشروع الرواية إذا كنت تعتزم تغيير العالم» كما يتوصّل برينان نفسه وفق ما قاله لصحيفة The Guardian البريطانية أخيراً، مستعيداً خلاصة سعيد القائلة: «لمن يشعرون بدافع لإحداث تغيير سياسي، فإن الرواية ليست المحرّك المناسب لتحقيق ذلك» التي يرجعها رينان إلى تجربته الشخصية ومحاولاته الروائية المجهضة. وبحسب السيرة الجديدة، فإن سعيد حاول كتابة روايتين تجمعهما الرؤية السياسية والذاتية التي تطبع أحداثهما التي تدور في الشرق الأوسط. في هذا السياق، يرى برينان أن سعيد كان يحاول تلمّس الطريقة أو الأسلوب المناسب لكي يشرح للأميركيين الذين يعيشون في أميركا، أنّ ثمّة ثقافة عربية مستقلّة نجحت في مقاومة التأثيرات الأجنبية في مكان مثل القاهرة. هكذا تحضر العاصمة المصرية كمكان لأحداث روايته «المرثية» التي كتب سعيد منها 70 صفحة فقط، وهي المدينة التي أمضى فيها طفولته خلال الأربعينيات.
انتظر سعيد ثلاثين عاماً كي يشرع في كتابة روايته الثانية السياسية المشوّقة التي تدور أحداثها في بيروت نهاية الخمسينيات. ويشبه برينان هذه الرواية بأعمال جون لو كاريه، إذ أنها مليئة بحكايات التجسّس، وتنطلق من المؤامرات السياسية الأميركية والقوى المحيطة فيها. وفيما لم يكتب سعيد إلا 50 صفحة منها، فقد توقّف عن المضي قدماً في كتابتها، من أجل التفرغ إلى كتابة مذكّراته «خارج المكان» لدى معرفته بإصابته بسرطان الدم. خلال هذه السنوات الطويلة، كانت لسعيد محاولة للكتابة القصصية عام 1965، تتبّع شاباً بيروتياً يتعرّف إلى معاناة عائلة فلسطينية لدى إجبارها على التخلي عن بيتها وأرضها. غير أن القصّة قوبلت بالرفض من قبل مجلّة «نيويوركر»، ما دفع سعيد إلى التوقف عن الكتابة الأدبية لسنوات طويلة. علماً أن القصّة نفسها تُظهر اهتمام سعيد بالشعر، إذ تحمل عنوان «تابوت للمستمع» المقتبسة عن قصيدة شاعر العصر الفيكتوري الإنكليزي، جيرار مانلي هوبكنز، الذي كان سعيد مهووساً بقصائده وكان يقرأ شعره لزوجته، وفق ما يتوصّل برينان الذي يستعيد أيضاً قصائد سعيد التي بلغت 20. بحسب السيرة الجديدة، فإن صاحب «الاستشراق» (1978) كتب شعراً «غارقاً في العروبة» خلال الخمسينيات تحديداً، وهو «ناتج عن شعور واضح بمناهضة الاستعمار»، إذ أنها قصائد تحوم حول شعور المرء بأنه محاصر بين عالمين. انطلاقاً من هذا الاهتمام السياسي المبكر، يتقفّى برينان الوعي السياسي المبكر لسعيد، داحضاً النظرية القائلة بأن اهتمام سعيد ووعيه السياسييْن جاءا بعد حرب 1967، مؤكّداً أنه ظهر قبل هذا التاريخ بسنوات. لكنّ هذه الهموم السياسية والفكرية العامّة، لم تمنعه من كتابة قصائد جنسية وشخصية تعبّر عن شعور عميق بالخوف، يرجّح برينان أنه كتبها بعد علاقته المضطربة بزوجته الأولى بداية الستينيات.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا