هم سارقو النار من سماء الآلهة، شعراء وروائيون ومترجمون يصهرون حديد الكلمات، تسيل فوق الورق الأبيض شعراً ونثراً ونشيداً في وجه الموت والقبح وكل أسماء الغول والعنقاء في زماننا: من فيروس مجهري يكبّل العالم ويغزو المساحات من الفضاء الشخصي حتى الأسواق والمطارات ويغيّر عاداتنا في الصحة والاجتماع والتعليم، إلى فيروس هائل اسمه ترامب وإدارته وإخوة يوسف الفلسطيني يرمونه كل يوم في ألف جبّ... ما هي أمنيات هؤلاء المبدعين على أبواب العام الجديد؟ كيف يودعون العام الصعب الذي كان بمثابة «امتحان غليظ على قلوبنا هزّ منازل الخوف في أرواحنا، فيه غاب عنا الكثير من الأحباب فجأة وأصابنا الفقد بغصّة لن تزول». وهل من فسحة لوداعه بالأمل؟ هل كان باكونين محقاً حين قال بأننا، نحن البشر، قادرون على التكيّف مع الحروب والمجاعات والأوبئة؟ «يسوع أحب اليعازر قبل أن يحييه» يقول الشاعر، فهل نحن قادرون على الحبّ في التباعد الذي تفرضه الجائحة؟ استطلعنا هنا أمنياتهم وخيباتهم في الأوطان والمهاجر، من الحيز الشخصي إلى القضايا الكبرى. ورغم أنّ كلّ المؤشّرات التي تقول إنّنا نمضي إلى مناطق أكثر إيلاماً وأقلّ مدعاة إلى الحلم والوثوق بالرّؤى، فإنّنا مطالبون بأن نردّد مع الرّاحل سعدالله ونوس: «لا يمكن أن تكون هذه نهاية التاريخ... نحن محكومون بالأمل».
عفارين ساجدي ـــ «عام جديد» (أكريليك على كانفاس ــــ 81 × 100 سنتم ـ 2019)


سأقبلكم حتى في الموت

محمد علي شمس الدين *

كيف أشبه الأيام على عتبة ٢٠٢١؟ تتدحرج أيام وساعات ٢٠٢٠ الأخيرة بين يدي الآن مثل أكر مرضية تنزلق إلى الجحيم. كوفيد ١٩... كيف أشبه الأيام؟ تلوح لي على وجوه الطغاة وما يفعلون. إنهم قريبون جداً يتجولون بيننا هنا قريباً في الجوار في ما خلف البحار، في الجزر البعيدة في الخلجان والمدن، يلوّحون على صورة رؤوس مدببة وغامضة كرؤوس البشر ورؤوس الحيوانات وقد اختلطت. أستطيع أن أسمي منهم خمسين مؤكدين من هنا وهناك وقد أسمي أكثر من ذلك ممن أعرفهم جيداً بالأسماء، وقد لا يعرفونني وقد سدّوا علينا الأبواب والنوافذ القريبة والبعيدة بما نبت في رؤوسهم من قرون دقيقة وبما بثّوه من أسباب الرعب الغامض والخلاص الصعب. ذلك أنّ تبادلاً تاريخياً حصل بين كيمياء الناس وكيمياء الأوبئة. استعادوا من البحار ما أفرغوه فيها من قاذورات ومن السماء ما بثوه من دخان المصانع ومن جوف الصحراء ما دسوه في أحشائها من فطر السموم... تجارب لكن... من اللحم البشري الحي... شعوب مهدورة بكاملها تضيع في الصحراء، مدن تهدى إلى مغتصبيها، تبدلت الجزيرة والأحوال والخليج يئن. الطغاة في بلادي لا يشبعون، تحرسهم آلهتهم والفقراء لا يشبعون، منسيين يتبددون في أواخر هذه الأيام. أحسّ ببرد كبير وبأنّني عار من جلدي وبلادي.
عادة عند مفاصل السنوات والفصول بين عام وآخر، بين فصل وفصل، بين يوم وآخر، ينتابني حزن وصمت لكنّي أنتظر الحب ليأتي. ثمة أشياء كثيرة حولي تموت لتولد أشياء أخرى. تذكرت جملة كتبها رولان بارت: «يسوع أحبّ اليعازر قبل أن يحييه». تتدحرج الأيام وهي خلفي، فأجدها أمامي كأنها مأساة إغريقية قديمة لا يستطيع أعضاؤها أن يفهموا الحياة إلا من خلال ذاكرة الموت. لا وطن لا بلاد لا عدل. الجوع يضرب على الأبواب. ما هذا التجويف الهائل؟ كيف تزدوج الحياة والابتذال إلى هذا الحد على منصة واحدة في شارع واحد، في خيمة واحدة، في انفجار واحد؟ وكيف لي أن أكتب وعلى سطح؟ لغتي كل هذه الارتجافات المخيفة وعلى جلدي تتذبذب هذه الضديات. وحين تذكرت حبّ يسوع لاليعازر الميت الذي أحياه، ارتسم أمام عيني مشهدان : مشهد جموع تسير نحو الموت وجموع أخرى تسير نحو الحياة. وسألت نفسي: أين أقف؟ لمن أنحاز في هذه القسمة؟ الحب يجمع أم يفرق؟ الصرخة التي تتردد كجرس إنذار بلا انقطاع... تباعدوا.... تباعدوا.... تباعدوا..... لا لن نتباعد... سأقبلكم حتى في الموت!
* شاعر لبناني

■ ■ ■


من ناحية الكورونا

حسن داوود*

مع أنني خائف من هذا الوباء، إلا أنني أتصرّف كما لو أنه لن يصيبني. لقد حيّدته، أو طوّقته، وإن في أوقات يعيّنها الآخرون. من هؤلاء مذيع نشرة الأخبار حين يقول إن حصيلة إصابات اليوم اقتربت من الألفي مصاب بينهم ثلاثة عشر توفّوا. أو حين يبلغني شخص خبراً عن شخص آخر أعرفه. أو حين تعلن بريطانيا عن تحوّل خطرٍ للجرثومة.
هذا إذن ما كان يقصده ميخائيل باكونين حين قال بأننا، نحن البشر، قادرون على التكيّف مع الحروب والمجاعات والأوبئة. قرأت ذلك في وقت مبكّر من حياتي وبقيت أستعمله على الدوام، وإن في ما يتعلّق بأمور أقل أهمية بكثير، كأن أردّد كلمات باكونين تلك حين كان أبي يمنع عني المصروف أو، في فترة لاحقة، حين أنتظر مَن واعدتُها ولا تأتي، للمرة الثالثة على التوالي.
أستطيع أن أزيد على مثلّث باكونين الكراهية، هذه التي غفل هو عنها. أقصد الكراهية الموجّهة لأشخاص لم أرهم إلا على شاشات التلفزيون، أو لآخرين لا أعرفهم ولا أتخيل لهم أشكالاً، وأتكلم هنا عن أصحاب البنوك. لكنني مع ذلك، وكما ذكرت أعلاه، أجدني وقد تمكّنت من وضع كل من هذه الأشياء الأربعة، في عِلبته أو في جاروره. نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة، لكل منها، في اليوم. في أحيان، أقول إنني أشعر بأني بلغت تلك الراحة لأني، فيما كنت أنتصر على الخوف، كنت أنتصر على الأحلام أيضاً. أمّا شرح ذلك، فيتمثل في أنني باق في البيت رغماً عني لكنني أعرف أني باقٍ في البيت برضاي. كما أنهم يضعون شروطاً للسفر فيما البلدان التي كنت أحلم بالتجول فيها باتت تخيفني. وآخر ما خسرته كانت تلك الرحلة النهرية من الأقصر إلى أسوان، تلك التي ظللت أؤجل القيام بها حتى باتت الآن أمنية صحبة التحقّق.
ما أنتظره من ٢٠٢١ هو أن نصير نقول فيها إن ٢٠٢٠ كانت سنة سيّئة، إذ ربما كانت هي مثلها، سيئة أيضاً. أما إن تمكنا من القضاء على كورونا، فالمؤمّل أن تكون سنة نقاهة نقبع فيها كلنا على أسرّة مريحة، محاولين مع ذلك أن نبقي درجة الكراهية عالية.
* روائي لبناني

■ ■ ■


أن نرى بعضنا البعض أقرب رغم المسافة الاجتماعية

طارق الطيب *

يودعنا هذا العام ٢٠٢٠ أو نودعه. كان عاماً لامتحان غليظ على قلوبنا هزّ منازل الخوف في أرواحنا، فيه غاب عنا الكثير من الأحباب فجأة وأصابنا الفقد بغصة لن تزول. رغم إعسار هذا العام خصوصاً منذ شهر آذار (مارس) بالنسبة إلي؛ إلا أنني كنت «أعافر» على كل الأصعدة: العمل والكتابة وشؤون العائلة وممارسة الحياة الاجتماعية باعتبار الأمر مؤقتاً وإلى زوال قريب. لم آخذ موضوع الجائحة ــ الذي هيمن على كل شيء ــ ببساطة، ولم أرتكن إلى التطرف في أيّ من الاتجاهين: إما التشاؤم التام والفزع والرعب، وإما التساهل المطلق واللامبالاة. ربما ساعدني على ذلك فريق عزيز من أهل وأقارب وزملاء وأصدقاء أدين لهم بالكثير.
للمرة الأولى يكون حديث العالم كله متشابهاً؛ في كل مدينة وقرية ونجع وكفر وحارة وزقاق: تفشي جائحة الكورونا وخطرها المُهلك للبشرية. توحَّد العالم في شأن لم توحِّده لا الحرب العالمية الأولى ولا الثانية ولا أيّ كارثة سابقة. وأن يكون لك أهل وأحباب في أربع قارات من العالم، فأنت بلا شك متيقظ على الدوام، فحين يشرق الفجر على أخت هناك، يكون الليل قد حلّ هنا عندي، وحين يبدأ الليل عندي يكون النهار عند أخت أخرى قد انتصف، وهكذا نسلم لبعضنا البعض اتصالات الاطمئنان اليومي على مدار ٢٤ ساعة، بشكل لم يسبق.
«المعافرة» الثقافية في محيطي العربي الألماني (كمجال لغوي) استمرت لدى الكثيرين في تحدٍّ محفِّز، مثلاً في نشر الكتب أو في التحضير لندوات أدبية وحوارات وتنفيذها أونلاين، في توقع الانفراج في كل لحظة، وكان هذا من أجمل ما رأيت: الأمل والتفاؤل. أمنياتي قليلة وبسيطة بعد عام باطش موجع من هذا الكورونا، هو أن نستعيد العالم القديم: اللقاءات في البيوت والمقاهي والمطاعم والحدائق والأندية والشارع، المصافحة، الضحك من القلب، الأحضان والقبلات، وقبل كل شيء الجلوس بلا مسافة اجتماعية. أمنياتي أن نعي وجود فئات كثيرة مهمّشة بيننا ومنسية، تحتاج منا إلى دعم بسيط قبل أن تنهار، ليس فقط بين زميلات وزملاء المهنة وإنما للإنسان بوجه عام. أمنياتي أن نكون قد اجتزنا الدرس الصعب بوعي جديد، يجعلنا أقرب إنسانياً وأكثر قدرة على رؤية بعضنا البعض أقرب، رغم هذه المسافة الاجتماعية الإجبارية. من أمنياتي أيضاً ما كتبته قبل يومين: «لو لديك رأي جميل في أحد الأشخاص أو تقدير لعمل قام به؛ فقل له ذلك قبل فوات الأوان أو اكتُبه قبل أن يذهب لعالم آخر؛ فتكتب عنه للآخرين وليس له».
* روائي سوداني (فيينا)

■ ■ ■


التصالح مع النفس

طالب عبد العزيز *

لا أعتقد بوجود سنة أفضل من سنة، ومن كانت السنة الماضية سيئةً، بائسةً عنده، قد لا تكون كذلك عند غيره، وهذا دأب السنوات التي مرّت علينا، وليس ثمة من تعميم، ربما كانت هناك أيام أو أسابيع مزعجة، عانينا فيها من قضية معقّدة ما، لكن السنة ستذهب الى نهايتها بكل تأكيد، وبما حملته إلينا من المباهج والأحزان، وقد نجد بيننا من كانت لديه أفضل السنوات، ترى، ماذا عن الذين أحبوا للمرة الأولى؟ أو دخلوا الجامعة ونجحوا فيها أو قبلوا في بلاد لطالما حلموا بالوصول والإقامة فيها؟ وهناك العشرات من الأمثلة. وأعتقد أيضاً بأنَّ أيَّ سنة تمضي من حياتنا هي موضوع للتأمل، إذ نكون قد خسرنا فيها قريباً، أو صديقاً عزيزاً، وقد نكون أخفقنا في تحقيق ما كنا نصبو له، والتأمّل هذا يعني أيضاً، الفرحَ الذي دخل علينا في ما تحقق من مشاريعنا وطموحاتنا. لن أطمح كعادتي في كل سنة إلى تحقيق تغيير نوعيّ، أو بسيط حتى، في منطقتنا العربية، فهذا ما لا يمكن تحقيقه، لا في الأعوام الماضية، ولا في العام ٢٠٢١. لذا سأكتفي بما أفكر في تحقيقه على الصعيد الشخصي. ولن أذهب إلى ما يفكر ويطمح إليه البعض من الأصدقاء الأدباء والفنانين، مثل إصدار كتاب أو ألبوم غنائي وغير ذلك، أبداً. فقد تقلصت حجوم الطموحات والآمال إلى الحد الذي بتّ أطالب فيه بالسلام الشخصي، وزوال آلام القولون، وأن أتصالح مع نفسي أكثر، وأن تعمل دائرة الري على تنظيف النهر، الذي عليه بستاني ومنزلي، أو أن يكفَّ الجيران عن إلقاء النفايات فيه، وأنْ تعمل الحكومة المحلية على حجب الأصوات الكريهة للباعة المتجولين، وإسكات مكبرات الصوت المقرفة في بعض المساجد، هناك أصوات ما أنزل الله مثلها بحنجرة آدمي، جعلت حياتي نكداً، كذلك أتطلع إلى أن تسمح الحكومة بفتح السينمات والبارات والمراقص في المدينة، حيث أسكن، وأن تقوم البلدية برفع البيارق والصور الدينية الممزقة، التي أحرقتها الشمس، وأخيراً أطلب من الله أن يخفف من حرارة شمسنا القاتلة، فما عدنا نحتمل الارتفاع المخيف في درجات الحرارة.
* شاعر عراقي

■ ■ ■


هل من متسع للحلم؟

زينب عساف *

لست ممن يحبذون الأحلام الطويلة، أؤمن بوجود جهاد يوميّ لا بد من أن نستمدّ الشجاعة والعزم لمواصلته. كانت سنة مؤلمة رغم وجود الكثير من انفراجات الأمل فيها. على صعيد شخصي تغيّر أسلوب حياتي قليلاً وليس كثيراً لأنه لم تكن لديّ على أي حال حياة اجتماعية صاخبة كي أفتقدها بسبب الحجر. الحياة هنا في ميشيغان تشبه حجراً طويلاً بسبب غياب الحيّز العام والشتاء الممتدّ، لكن فيها إيجابيات أيضاً لأنها تسمح لك بالتركيز ومعرفة ما هو مهم وما هو عَرَضي.
إذا أردنا أن نفكّر بإيجابية، أتمنى أن نكون قد استفدنا من هذه الاستراحة القسرية لنعيد ترتيب أولوياتنا. العالم المجنون اللاهث خلف الخواء الهائل لعصرنا الحالي كان بحاجة إلى وقفة كي تتنفّس كرتنا الأرضية التي أنهكها جنسنا البشري بجشعه اللامحدود. لعلها فرصة أيضاً لاستبيان ملامح المرحلة القادمة والنظم التي ستحكمها، وهي مرحلة ستكون أصعب بسبب تمركز رؤوس الأموال في مؤسسات عملاقة من حيث قدراتها المالية من جهة، وناشئة بمعنى عدم تمرّسها وانخراطها في النظم الاجتماعية من جهة ثانية. أما التكتلات الدولية الصاعدة، فهي لا تنذر إلا بمواجهة حتمية. مرحلة كهذه تشبه مراحل ما قبل حرب كبرى فعسى ألا نسير في هذا الاتجاه بشكل متسارع.
هل يسعنا أن نحلم في ظل ذلك كله؟ غريب هذا الأمل يشقّ طريقه من ثقب في القلب أو الجدار. على صعيد شخصي، أعرف أنّ هناك جهداً كثيراً في انتظاري هذه السنة، لكنه في الطريق الصحيح. لذلك أشجع نفسي على المواصلة رغم أنف الظروف. وأتمنى أن يكون الحظ حليفاً للجميع في السنة القادمة كي ننسى حفلة القتل بسبب الكورونا والأحداث التي أجهضت مرة أخرى أحلام جيل يحلم بالتغيير.
* شاعرة لبنانية (ميتشيغن)

■ ■ ■


في مقاومة اليأس

رنا التونسي *

رغم كل شيء أحلامي لا تنتهي. دائماً أحلم بأمل جديد وأن الغد حتى لو فقط الغد سيكون أفضل.
أحلام العام الجديد مليئة بالأمنيات بالصحة للجميع. وأن أستعيد الحماس والفرح والشوارع المفتوحة والطموحات بلا حدود. أتمنى أن تأتي ٢٠٢١ وكل شخص بفرح وحب وأمان في بيته ووسط من يحب. وأن يقاوم الناس ذلك الألم والمرض والقمع واليأس.
* شاعرة مصرية

■ ■ ■


لا تقفلوا صفحاتكم أيها الموتى

عامر الطيب *

إن عاماً مضى هو عام نعرفه يمكننا أن نتحدث عنه بشجون أو ببهجة وما أقلّها. أما العام المقبل فهو طيف خفي، علبة مغلقة نتمنى أن نفتحها لنرى إن كانت تضم ثعباناً أو مفتاحاً أو خاتماً...إنني أود أن أجد مفتاحاً. وبذلك أنا مع الأمنية عظيمة أو منفعلة كوننا لا نستطيع أن نعمل شيئاً، حقاً نحن لا نستطيع أن نجعل الزمن جميلاً، إلا أننا قادرون أبداً على التمني.
لكنْ من يتمنى بهجة الوردة يفتح لها صنبور الماء، من يتمنى خلود الأغنية يسمعها قليلاً، من يتمنى نهاية الحرب يلزم نفسه محبة كل شيء عابر أو زائل، متوهج أو ضحل.
وبالعودة إلي شخصياً، فقد كان عام ٢٠٢٠ أسوأ أعوامي إذ فقدت أبي، الرجل الحكيم النشيط الذي لا يمكن تعويضه، بمعنى أو آخر بدأ الشق الثاني من حياتي، شق التساؤل بجدية عن الموت أو حوله أو معه. تذكرت مقولة للحسن البصري وظللت أقلبها مطولاً : «ما ألزم عبد ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده». بدت الدنيا صغيرة بعيني مثل دمعة أو مثل كتف أو نهد أو ساقية أو شيء يمكننا الالتفات بعيداً لتقليل حضوره وصار بإمكاني أن أحبها- أي دنياي- بعاطفة عاقلة، عاطفة تعي أن الزمن لن يكون لمصلحتي دائماً. مات أبي عن صحة جيدة كفلاح سبعيني غير بدين بعدما أصيب بفيروس كورونا، علم بأنه مصاب لكنه ظل لامعاً مثل كلماته القوية التي قالها في مركز الحجر الصحي: «هل هذه حياة تستحق أن نعيشها؟». ظلت كلماته تلك تتردد في ذهني حتى قبل أن يفارق حياته في غرفة الإنعاش قبل شروق الشمس بلحظات. نظرتُ إلى ساعة يده وهي تدق فعرفت كم هو الموت مبصر؟ كم هو الزمن ضال؟ فتحتُ عيني على الأيام في المقبرة التي أزورها للمرة الأولى، قبور جداتي وأجدادي وأعمامي، صرت بيني وبين نفسي أتخطى كلمة عابرة لإيمان مرسال: «كأن الموت هوية ناقصة لا تكتمل إلا في مقبرة الأسرة!»
لقد تحدثتُ عن الموت طويلاً، أتمنى أن نعيش جميعاً سعيدين، متواضعين ومتحابين، أن نفعل أي شيء لنحب بطموح وشجاعة واستمرار، أن نحب أي شيء لئلا نغيب أو نرحل أو نتخفى، أتمنى أن يكون العام القادم جديداً. لا تقفلوا صفحاتكم على الفيسبوك أيها الموتى!
* شاعر عراقي

■ ■ ■


ابتعد كلما أحببت أكثر

فاتنة الغرة *

أكثر من عشر سنوات مرت منذ قدومي إلى بلجيكا وأنا أعيش وحدي، لم أتشارك مساحتي الصغيرة مع أحد، حتى الزائرون الذين كانوا يطلون بين الفينة والأخرى كانوا يحطون خفافاً وإن طال مكوثهم وصاروا ثقالاً ضاقت الأرض في بيتي بي وبهم، وبدأت الأبواب تنفتح لمن يخرج منها الآن، طقوسي اليومية الخاصة التي أستطيع تكرارها بكل سلاسة وبلا أدنى تفكير هي منطقة الأمان الثابتة لدى امرأة بلا منطقة أمان أو ثبات غير عاداتها الصغيرة التي لا تعني أحداً سواها. الحديث مع سائق الباص أو قبلة خاطفة من طفل مشاغب في الترام منحني نظرة متواطئة تقول بأننا ننتمي إلى الفصيلة نفسها من الكائنات المشاغبة التي تتحرك كثيراً وتتحدث كثيراً وتضحك كثيراً وتفرح كثيراً وتبكي كثيراً وتحزن كثيراً ويكسر ضوء الشمس المستتر وراء غيمة قلبها بسهولة انكسار الضوء في ممر مستشفى معتم.
أذرعُنا وهي تحتوي حبيباً أو صديقاً أو قريباً. أكفنا وهي تصافح وتلمس حرارة الأكف المقابلة مثل تيار حراري يقول ما لا يُرى، الفم وهو يقبل الوجنات الباردة أو الدافئة مثل معدات الأرصاد الجوية، الأنفاس التي تقربنا أو تنفرنا من الآخر القريب، عاداتنا الصغيرة والهامشية هذه. المتع المجانية البالغة الدقة التي لم نفكر يوماً بأنها تمتلك مفاتيح الشمس والهواء صارت طحالب خضراء تتمدد فوق أقدامنا وأكفنا وأوجهنا حتى صار الحضن لونه أخضر، والقبلة لونها أخضر، ولمسة الأصابع لونها أخضر والقشعريرة التي تصاحبها أحياناً صارت تحمل وصفاً يغاير المتعة بل يناقضها، وصار الحب يعني أن تبتعد، ابتعد كلما أحببت أكثر، انظر إلى من تحبهم هكذا دون أن تقترب أو تشم رائحة أجسادهم ودون أن تسقط على وجنتيك دمعة أحدهم، تتدحرج إلى شفاهك وتمتزج بلعابك بذلك المزيج المحبب من الملوحة التي تشعرك فجأة أن لمست الأرض بهذا اللسان.
* شاعرة فلسطينية (بلجيكا)

■ ■ ■


أيتها الـ«20/20» شكراً

كاظم خنجر *

في الـ«20/20»
كل واحدٍ منا
يُجلسُ ذعره بجانبه
ويتحدثان عن أمور التسوق ودفع الإيجارات

أيتها الـ«20/20» شكراً
يا سنة الحظ
وأنتِ تعيدين الإنسان إلى الكهف
والحيوانات إلى الشوارع
وأنتِ تضعين السماء على الرف
والأرض على الطاولة
وانتِ توقفين الرصاص والديناميت
وتجددين المقابر
وأنتِ تمررين أصابعكِ على السماء الجريحة
تذكري بأننا هنا نخاف أن نراكِ

لا يمكننا عقب الـ«20/20» أن نقسم الزمن إلى سنوات
لأنها ببساطة قسّمتنا إلى أزمان صغيرة... نجري داخلها إلى الأبد.
* شاعر عراقي

■ ■ ■


الخروج من حالة الطوارئ

صالح لبريني *

يؤسفني أن آخذ طريقاً آخر، بعيداً عن ضجيج العالَم، لأذهب بخفي حنين وحيداً أعزل من أحداث ووقائع كان لها مفعول سلبي على رؤيتي وأحلامي التي سأتركها منفردة بخيباتها العديدة، وبفقدان الكثير من الخلّان، بعدما كانت سنة ٢٠٢٠ مليئة بمنعطفات مهمة في مسيرة الإنسانية، حيث غيّرت مجرى الحياة، وتحوّل الناس فيها إلى أسرى مطوقين بقضبان جائحة لم تخطر على بال أحد، ولم تكن في الحسبان. جائحة قيّدت البشرية في الزمان والمكان، وانتصرت على رهاناتها التي باتت قاب نهاية محتومة، فالجائحة نشرت الموت والرعب والتوتّر والقلق، وعدم الطمأنينة، لتسقط الإنسانية في شَرَكِ الحيطة والحذر من فيروس لا يرى، بل يستبد بالشهيق والزفير ليجعلهما في حالة عصيبة كلّما فشلا زرع كوفيد ــ ١٩ الفتك والموت، لتغدو الأرواح رهينة لعنات. وقد زاد الطين البلة ويلات نهاية السنة بتهويد «الدول العربية» الخانعة والفاقدة لإرادة الوجود جرّاء التطبيع الذي انتشر كما تنتشر النار في الهشيم. فزادت الرؤية سوداوية لمصير آثم وسيكون كارثياً في القادم من الأيام.
وعليه فما آمله من السنة المقبلة ٢٠٢١ هو الخروج من حالة الطوارئ التي تعيشها الإنسانية، وأن يعيد العرب النظر في وضعهم المأزوم كي ينقذوا ما يمكن إنقاذه، ثم أن يستعيد الإبداع العربي ديناميته المعهودة، بالعمل على إشاعة القيم النبيلة ومحاربة الضحالة التي غدت لسان حال أمّة تعيش حالة شرود وتيهان وتمزّق وتشرذم.
* شاعر مغربي

■ ■ ■


فلسطين حرّة من البحر إلى البحر

علي عاشور *

بعد عام كان كلُّ ما فيه أقرب إلى الجنون واللامعقول بالنسبة إلى العالم، وإلى مهاجرٍ اعتاد أن يغرف من بحر الخليج إلى أن وجد نفسه وحيداً يقضي عامه الثاني في الشمال في وقت جائحةٍ اكتسحت العالم، يشكّل كرات الثلجِ في الشتاء الكندي ويرميها إلى الهواء متخيّلاً عائلته، أتمنى في ٢٠٢١ أن تتنفّس الشعوب بعض السلام والطمأنينة. أتمنى أن ينظر العالم بعيون الرحمة إلى الفقراء والمحتاجين والمهجّرين بفعل الإهمال والحروب والإرهاب ووحوش المال والسياسة والتطرّف الديني. أتمنى أن يقال عن الصواب صواباً، ويشار إلى الخطأ بإصبع الواثق. أتمنى فلسطين حرّة من البحر إلى البحر، بلا مساومة ولا أوهام ولا تنازل. فقد كشف ٢٠٢٠ إلى أي مدى وصل تشويه القيم والمفاهيم، وإلى أي حدّ شوّهت الثقافة وسُلّع الناس، وما عاد هنالك فرقٌ ما بين الآدميين والأرقام. في العالم العربي والإسلامي، صار القاتل والمقتول، بغضّ النظر عن القضيّة والموقف، شهداء. تلامُ الضحيّة لأنها لم تفهم لغة سياط الجلاد ولم تقدّر مجهود الجلاد في جلدها! صارت الحقوق الأساسية عطايا يتكرّم السياسيون والسرّاق بإعطاء بعض منها للناس. أصبح السارق بريئاً حتى يثبت المسروق أنه يستحق ما سُرق منه! صار الفلسطينيون مذنبين لأنّهم أزعجوا العالم بعد قتلهم وتشريدهم وتهجيرهم وتعذيبهم وسجنهم وهدم بيوتهم وحرق مزارعهم وحرمان أطفالهم حتّى من حق الدمعة! لذلك، السلام والتطبيع أجدى للعالم. نعم، السلام والتطبيع أجدى لعالمٍ أعمى بلا رؤى وقيم ووعي. ماذا تبقّى، في عالمٍ يكره أصوات حروف الشاعر ويهلل للصواريخ والقنابل وصياح الضحايا. أتمنى أن يعمّ العلم ويجتاح الشعرُ خلدَ الكائن، العلمُ الذي يبني الإنسان والشعر الذي يشكّل حاسّة الجمال. أو على الأقل، نسمةُ أملٍ تمرُّ من النوافذ.
* شاعر سعودي (كندا)

■ ■ ■


لنزرع الأمل

مهدي النفري *

ثمة أشياء تفرض نفسها علينا بدون ترحيب منا، الكتابة عن ٢٠٢٠ تشبه الكتابة عن ضيف ثقيل دخل بدون استئذان في كل مجال في حياتنا، زرع الألم دون رأفة بِنَا. في المجال الثقافي جعلنا نفتقد أبرز مترجم عربي خدم القارئ بكل ما تعنيه الكلمة دون تعب أو ملل، سرق منا الشاعر والمترجم المصري محمد عيد ابراهيم من دون أن يمهله أن يكمل الكثير من أحلامه، ثم أعقبه بفيروس كورونا الذي أفقد الجميع حساباتهم، بل إنه أسقط الرهان على مستقبل نظيف من تلك الأوبئة. لأننا تكلمنا عن عام ٢٠٢٠ فعلينا أن نقف طويلاً أمام ما فعله في بيروت الحبيبة وانفجار المرفأ فيها. قبل أن يغلق بابه عاد ليحصد ثمرة أخرى من الجمال حيث رحل المترجم والشاعر رفعت سلام، مع كل ما فعله ولا يزال يفعله وأعني هذا العام علينا أن نزرع الأمل، أن نملك التفاؤل رغم كل الصعوبات، فالتاريخ كتب الكثير من الوجع والآلام، لكنه كتب أيضاً المسرّات والأفراح. أمنيتي للجميع بعام قادم جديد ملؤه المحبة والسلام وأن يقترب الإنسان أكثر من إنسانيته.
* شاعر ومترجم عراقي (هولندا)

■ ■ ■


اجلس وهات الحساب

لطفي الشابي *

أقف في كلّ نهاية سنة، منذ نحو عقد، وقفةَ المتأمّل الذي يُحصي المحطّات التي عبرها ويتذكّر الوقائع والوجوه والمواعيد والكلمات. أقف وفي خاطري عبارة قريبة من عبارة «ميمونة» في كتاب «السدّ» لمحمود المسعدي وهي تحاسب غيلانَ حبيبها الكافر بصاهبّاء، إلهة القحط والنّار، «اجلس وهات الحساب». فأجلسُ، وأستعرض في صمتٍ ما الذي أنجزتُ على امتداد هذه السّنة وما الذي أخلفتُ. ٢٠٢٠ لم تكن سنة عاديّة، أجل. عطّلت الكثير من المشاريع وجمّدت حركة الكوْن البشريّ تقريباً، وما زالت الحركة شبْه واقفة وإن بدأ يلوح في الأفق بعض الضوء الذي يقول قربَ الخروج من هذا النّفق المديد. ولكنّها بالنسبة إلى المبدع، الذي يطلب العزلة والخلوة من أجل الإبداع، تُوفّر فُرص التفرّغ للكتابة واستكمال المشاريع المعطّلة.
مع ذلك، لمْ أصدر كتاباً واحداً على امتداد هذه السنة التي كنتُ أنوي فيها إتمام رواية كنتُ قد شرعتُ فيها منذ أكثر من أربع سنوات (حديقة صَحْرَا)، وإصدار جزء أوّل من سيرة ذاتيّة كانت تلحّ عليّ منذ فترة (أيّامٌ خارج الوطن). لم أنْه الرّواية الواقفة، ولم أكتب من السّيرة إلاّ فصلَها الأوّل. ولكنّي في المقابل حقّقتُ حُلماً عزيزاً كان يلازمني منذ سنوات: بعث مجلّة ثقافيّة أدبيّة جامعة. مجلّة ورقيّة كنت أعرف أنّها ستأخذ منّي الكثير من الجهد والوقت. ولكنّي كنتُ واثقاً من نجاحها. أصدرنا في هذه السّنة عدديْن اثنيْن. وكانت حدثاً في الوسط الثقافي التونسي. ونحلم بأن تكون مجلّة ذات انتشار عربي ودولي. وستكون. على الصعيد الشخصي، شهدت هذه السّنة أيضاً انقطاعي عن التّدخين. لم أدخّن سيجارة واحدة منذ أكثر من أربعة أشهر. ولم يعد عقلي، الذي قاوم على امتداد الأسبوع الأوّل من الانقطاع ثم أذعن، يزين لي أنّ السيجارة من لوازم الكتابة وضرورات الإبداع، (كم كان ذلك سخيفاً). وهكذا ستظلّ هذه السّنة بالنسبة إليّ مقترنة بحدثين مهمّين، فلِمَ أشكو؟
نودّع هذا العام، مع ذلك، ونحن نحلم بأن تكون السّنة الجديدة أقلّ جموداً من سابقتها، أقلّ خوفاً، أقلّ وعياً بأنّنا نتراجع، نحن العرب، ونبتعد أكثر عن أحلام تكاد تنقلب إلى كوابيس. هذا المدّ الأصوليّ المُرعب، وهذا المدّ التّطبيعيّ القبيح وهذا البؤس المعمّم من الخليج إلى المحيط، متى يتراجع؟ ورغم أنّ كلّ المؤشّرات التي تقول إنّنا نمضي إلى مناطق أكثر إيلاماً وأقلّ مدعاة إلى الحلم والوثوق بالرّؤى، فإنّنا مطالبون بأن نردّد مع الرّاحل العزيز سعدالله ونّوس: «لا يمكن أن تكون هذه نهاية التّاريخ... نحن محكومون بالأمل».
* شاعر وروائي تونسي

■ ■ ■


تأملات في الزمن الآتي

سركيس أبو زيد*

نُودع سنة الأسئلة الوجودية، ونستقبل سنة جديدة أجوبتها غير جاهزة. مع اقتراب نهاية السنة، يكثر عمل البصّارين والمنجمين، وتبدأ المنافسة بين وسائل الإعلام ودور النشر للتسابق على ترويج التوقعات. المشكلة ليست في نجومية العرافين بل في استعداد الناس للاستماع إلى خرافات متناقضة، ما يُؤكد تراجع الوعي العلمي والثقافة العقلانية.
كنت أعتقد أن التنجيم سمة شرقية لغرقه في الروحانيات، وأنها مجهولة في الغرب المعروف بعقلانيته، لكن مفاجأتي كانت عظيمة عندما شاهدت في باريس عام 1983 مؤتمراً دولياً عن التبصير والتنجيم. وكانت مفاجأتي أكبر عندما علمت أن الرئيس فرنسوا ميتران الاشتراكي ووريث عصر التنوير يستشير برّاجته كل صباح في قصر الرئاسة.
هل فقد العالم عقله؟!!!
نُودع العام 2020 الحافل بالأحداث، ونستقبل عاماً جديداً يُبشر بتوقعات مثيرة. هل توقف التاريخ بانتظار المجهول؟ وهل نعيش في أيامٍ تضج بالأسئلة، والجواب كامنٌ في الآتي؟
نحيا في زمن اللايقين، وفي منطقةٍ صاخبةٍ بالأحداث والتحولات، والقوى الفاعلة فيها مُؤمنة بالماورائيات والتمنيات والأوهام والتخيلات، والتوقعات منها الطريف ومنها الغريب ومنها المستهجَن. كيف نصنع مستقبلنا؟
هل عِلْمُ الغيب يصنع الواقع؟ أم أن الإنسان له القدرة والوعي لتجسيد الإيمان في فعل الحدث، فيجمع العقيدة والبطولة ليغير مجرى التاريخ؟
عالمٌ بلا عقل، لكن كل سلطة تستغل الفوضى والضياع لتحقيق أغراضها.
يُودعنا العام 2020 من دون جواب على أسئلةٍ صعبةٍ، منها:
يُواجه الإنسان الأوبئة والكوارث وغضب الطبيعة والبيئة والأزمات الاقتصادية والسياسية والحضارية، فكيف يُحافظ على وجوده وحقه في البقاء والاستقرار والأمان؟
هل تقع الحرب العالمية الثالثة، أم تُستبدل بحروبٍ إقليمية أو حروبٍ باردةٍ أو ناعمة؟ كيف يحمي الإنسان أمنه؟
أمام التحديات الوجودية المصيرية يقف الإنسان مع ذاته حائراً ضائعاً خائباً: يشك في إيمانه السابق بالمسلمات والمناهج والأفكار الحاضرة في الوجود وما قبله وبعده. وفي الوقت نفسه، يُفتش عن اليقين في قيمٍ ومُثلٍ وأخلاقٍ تُكَوّن إيمانه الآتي بمعنى الخلاص والفرح.
وباء الكورونا سيغير العلاقات والمفاهيم والأفكار السائدة في العالم، هل سيغير الإنسان سلوكه ووعيه وأولوياته وقيمه؟ هذه التحديات والتحولات سوف تُعيد الاعتبار إلى الإنسان أولاً. كان هاجسنا تغيير العالم، لكن الآن أصبح همنا الأول المحافظة على العالم وعلى بيئة نظيفة تُوفر الصحة السليمة والتنمية المستدامة والأمان الوجودي. بعد وباء الكورونا سيكون مطلبنا الأول هو بقاء الإنسان على قيد الحياة، ومن ثم نُدافع عن حقوقه. وجود الإنسان أولاً ومن ثم نعمل من أجل تحسين وجوده. محور تفكيرنا هو الإنسان أولاً. وأولاً العمل للدفاع عن «الحق في الحياة»، لأن الإنسان هو مركز العالم، إذا انقرض تدخل الحياة في المجهول ويفقد الكون معناه. الكون موجود لأن الإنسان يُدركه، يعيه، يعرفه.
لأن «المصيبة تجمع»، تجتمع اليوم الدول الفقيرة والدول الغنية لمواجهة تحديات صعبة مشتركة، أهمها استمرار الجنس البشري، ومُواجهة الكوارث الإنسانية والبيئية التي نجمت عن سياسة الإنسان تجاه نفسه وتجاه الطبيعة والآخر والمعنى. منها التغير البيئي والتلوث، الفقر والجوع، مُحاربة الكراهية والعنصرية ومختلف حالات الإلغاء، الانعزالية، الجهل والأميّة، الحق في الأمان واحترام حق الاختلاف والتعدد، مُكافحة التعصب والأوبئة والكوارث الطبيعية والأمراض والخوف والألم ...
في زمن الحروب والكوارث وكورونا، التحدّي الأكبر الذي يُواجه العالم اليوم، هو تحدي الفناء والعمل من أجل البقاء على قيد الحياة، بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
الكارثة البيئيّة التي ستهدد بقاءنا على قيد الحياة في المستقبل لا تقلّ خطورة عن الأسلحة النووية والكيميائيّة وسائر الحروب الفتاكة.
المشاكل الاقتصادية تُغرق العالم بالأزمات العالمية وبالمجاعة والفقر والتخلف، فهل يمكن للإنسان أن يُواجه هذه الأخطار ويبقى على وجه هذه الأرض؟ قبل أن يُجيب على سؤال: كيف نُطور حياتنا؟ عليه أن يُواجه سؤال: كيف نُبقي عليها؟
نستشعر الآن تأثيرات وتداعيات كورونا ومشتقاتها على حياة الإنسان والمجتمع والدول. العالم اليوم يُواجه أزمة مزدوجة: وباءٌ قاتلٌ واقتصادٌ منهارٌ. كورونا ليست مجرد مرض يُهدد الصحة العامة، بل هي تحدٍّ يُهدد البشرية بتغيير العلاقات الدولية والإنسانية وسلوك الأفراد والقيم السائدة. دخل العالم في مواجهة أوبئة متعددة ومتنوعة سنكتفي بحصرها بكارثتين: جائحة فيروس كورونا وجائحة الكساد الاقتصادي الناتج عن بنية النظام الرأسمالي المتوحش، بالإضافة إلى العقبات المترتبة من الجائحة الأولى. مع الوباء الصحي، انتشر خوف مالي كالفيروس لأننا لا نعرف على وجه اليقين ما هي الإجراءات التي يتعين علينا أن نتخذها في الأسواق الاقتصادية.
بعبارةٍ أُخرى، أصبحت كل عناصر الاقتصاد الرأسمالي في حالة سقوطٍ حُرٍّ غير مسبوقة. لم يحدث حتى خلال فترة الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية أن أُغـلِـق النشاط الاقتصادي بشكلٍ شاملٍ، كما حدث أخيراً في العالم، خاصةً في الصين، والولايات المتحدة، وأوروبا.
لقد أظهرت الأنظمة الرأسمالية عجزها الفاضح في توفير مُتطلبات الصحة العامة في بلدانها. ومن الواضح أيضاً أن المعالجات المالية والاقتصادبة لم تكن سريعة بالقدر الكافي. وعلى هذا فإننا ننتظر حدوث كسادٍ أعظم جديد، أسوأ من الأصلي.
من يُنقذ الحكومات، والشركات، والبنوك، والأسواق الناشئة؟ من المرجح أن تتسبب الأزمة الحالية في التعجيل بعملية تفكك الاقتصاد العالمي قريباً، ونهاية النظام الرأسمالي المتوحش الفاشل. بعد انهيار عام 2008، نجحت النيوليبرالية، ولو متأخرة في انتشال الاقتصاد العالمي من الهاوية. ولكن هذه المرة قد لا تكون الرأسمالية قادرة على إنقاذ نفسها.
الأمن الوجودي وتحدّي الحروب
هل نحن على أبواب حربٍ عالَميّةٍ ثالثةٍ؟ أهل التكفير يشنّون شكلاً من حرب إرهابٍ عالَميّةٍ ضدّ كلّ مَن يُخالفهم الرأي. حركات المُقاوَمة تتحوّل إلى نَوعٍ من الحرب العالَميّة ضدّ المَظالِم والاحتلالات. حرب عالَميّة من نَوع آخر تندلع من أجل التكنولوجيا والبيئة والمَوارد الحياتيّة، ولا سيّما المياه. حروب عالَميّة عِلميّة مُدمِّرة تُهدِّد بنهاية البشريّة. وفضلاً عن عَولمة الإرهاب والمُقاومة، يرسم آخرون سيناريوهات حربٍ عالَميّةٍ كلاسيكيّةٍ متوقَّعة بين الولايات المتّحدة والصين وروسيا، ويتساءلون: هل يُمكن تفاديها؟
يُؤكِّد المُتشائمون أنّ العالَم لا يزال زاخراً بالمشكلات وقد تنفجر بحروب فتاكة. لكنّ المُتفائلين يُركّزون على اجتثاث الفقر، والقضاء على الأميّة، وتعزيز السلام، ويُبشرون أنّ العالَم سيصبح مكاناً أفضل ممّا نتصوّر.
بعيداً عن التشاؤم والتفاؤل، أصبح العالَم بحاجة إلى رؤية أكثر إنسانيّة وأخلاقيّة لبناء إنسان جديد يعترف بالآخر ويضحّي من أجل الغير ويهزم الأنانيّة ويكون قادراً على إطلاق ثورة ثقافيّة لعالَمٍ جديد. جائحة كورونا وأخواتها من الكوارث والحروب ليست مجرد وباءٍ، إنها صدمة حضارية. إنها صفعة تحد وجودي حرّضني أكثر على النقد الذاتي ومراجعة المسلمات التي آمنت بها والشك في البديهيات الموروثة. وحرضتني أكثر على التفكير والتأمل والحلم. إنها دعوة للتفتيش عن معنى الحياة والوجود. إنها سؤالٌ مُتعددُ الأبعاد، وحالةً مُتحركةً، وتحولات مُستمرة خارج الثابت والسكون. إنها طريق الحرية الى إنسانٍ يُبدع العالم الجديد بألوان الحق والخير والجمال، ويُحيي الانسجام مع الذات والآخر والطبيعة والمعنى.
هل نشهد موت الإنسان الفرداني الإلغائي للآخر العدواني الذي يزرع الحروب والتدمير والخراب، كما بشَّرنا فرنسيس فوكوياما في ما سمّاه «نهاية التاريخ»، أو أنّنا دخلنا مرحلةً تاريخيّةً لإنقاذ الحضارة والإنسانيّة بولادة إنسانٍ جديدٍ يعمل على إيجاد سُبلٍ جديدةٍ للتعاون والنهضة؟ على أن يكون الأساس هو إيثار الآخر وإنكار الذّات.
ما زال الإنسان يعيش صراعاً بين الحرب والأمان، بين نزعته الداروينيّة العدوانيّة وتوقه إلى تجسيد الأخلاق والقيَم السامية في عالَمٍ جديدٍ. هذه الحالة تشهد أيضاً سُرعتين مُتعاكستين، الأولى تتجه إلى الخراب والفناء ونهاية الحضارة. والثانية تتطلع إلى العلم والمعرفة والإبداع من أجل بناء نظامٍ جديدٍ يُحقق الأمن (بدلاً من حروب القتل والإرهاب) والأمان ( بديلاً عن الأزمات)، والإيمان بالإنسان (طريقاً للخلاص). هل مات الإنسان أم يُولد من جديد؟ سؤالٌ يستحقّ التأمّل والبحث في نهاية عامٍ صاخبٍ، وعشيّة الدخول في زمنٍ آتٍ واعدٍ.
* كاتب وناشر لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا