عودتنا الكتب والروايات التي تتناول السير سواء أكانت سيراً ذاتية أو شخصية، أن نقرأها من بداياتها حتى نصل إلى النهاية. لكن في كتابه «ضياع في موسكو»، انتهى الكاتب الفلسطيني عدنان داغر بنا، ليبدأ حكاية لم تنته تفاصيلها بعد. حكاية عنوانها فلسطين، تروي سيرة مناضل أبعد عن أرضه ليجد نفسه يعيش قساوة الشتات، إذ يأخذنا بذاكرته إلى الماضي.ولأنه كتبها على فترات، جاءت فصولها قبل الإبعاد وبعده. كانت البداية بالإبعاد بعد اعتقاله لمشاركته في عضوية القيادة الموحدة للانتفاضة، إذ صدر قرار بإبعاده عن الأراضي المحتلة بعد فترة اعتقال دامت ستة أشهر حاول خلالها استئناف قرار الابعاد. لكن عقيدة كيان الاحتلال مبنية على تهجير سكان البلد الأصليين وإبعادهم. رحلة الإبعاد بدأت بإقامة قصيرة في لبنان كانت محطة لزيارة مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني في المخيمات لتقديم صورة واضحة عن مجريات انتفاضة الشعب الفلسطيني في الداخل، ومن ثم الاننقال إلى روسيا بدعوة من الحزب الشيوعي السوفياتي. «رحلة الضياع» ــ كما اطلق عليها ــ بدأت تحديداً في المطار حيث وصل ولم يجد أحداً في انتظاره، وهو القادم إلى موسكو بدعوة رسمية! إذ يقول: «شعرت بالضياع والقهر»، أوليس الضياع رحلة ككل شيء في الحياة!
تبدأ رحلة تيهه في موسكو، أو ما أسماه «الضياع الموسوكوبي المؤقت». ومن خلال تلك الاقامة، نكتشف موسكو والحياة فيها بكل ما تحمله من مفاجآت لرجل مبعد عن وطنه، وهو الذي يرى وطنه في كل شيء حتى في برد موسكو: «يا رام الله، كم افتقدت دفء أحضانك في صقيع الغربة».
الحياة لم تكن سهلة بعكس الماكينة الاعلامية للحزب التي تروج له، فقد استطاع رصد الأوضاع الصعبة هناك، وكيف كان الناس يقفون في طوابير طويلة من أجل إنتظار أشياء لا يعرفون ما هي. فقط يخمنون أنه قد لا يجدونها في قادم الأيام. هذا الواقع البائس سيفرز نتائج كارثية، وهو ما توقعه. فقد انهار الاتحاد السوفياتي بعد فترة قصيرة. الوضع المزري للاتحاد كان له الأثر البالغ على الأحزاب الشيوعية من ضمنها الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تسلّم فيه الكاتب مسؤولية قطاع الطلبة في روسيا. ساءت علاقته بقيادة الحزب بسبب القرارات البيروقراطية وتداخل المسؤوليات وصلت إلى حد اقتطاع راتبه الذي كانت منظمة التحرير توفره للمبعدين، بالإضافة إلى الاختلاف في وجهات النظر.
أمام تراكم الإحباط وضبابية الرؤية، قرر الكاتب مغادرة روسيا إلى الأردن التي كانت التجربة فيها أشد قسوة، إذ تحدث بكثير من الحسرة عما حدث له هناك من مراقبة أمنية وتضييق. كل معاملاته كانت تمرّ على الأجهزة الأمنية لأخذ الموافقة حتى في ما يتعلق بتدريس أولاده والإيجار، فأصبح زائراً شبه يومي لذلك البناء. أمام استحالة العيش هناك، قرر أن يأخذ غمار تجربة العيش في أميركا والتي يملك تأشيرة دخولها من أيام عمله في الاتحاد السوفياتي كمراسل لجريدة «الطليعة». الحياة في أميركا كانت صعبة على غرار الدول الرأسمالية. تنقّل بين أعمال عدة قبل أن يستقلّ بعمله الخاص. فقد كان يعمل 18 ساعة متواصلة تحت الضغط زادتها حالة اللامن المنتشرة. رغم أنها كانت تعطيه أشياء جيدة، إلا أنّ نمط المعيشة صعب. حاول أن يتأقلم مع أجوائه رغم كل شيء، ولكن من دون جدوى:
«المهاجرون العرب يعيشون حالة من تعدد الشخصية هنا، فهم ممزقون بين هويتهم القومية والاجتماعية والدينية التي يحملونها منذ الصغر، وبين مجتمع يعيشون فيه ولا يحسون بالانتماء إليه، ومضطرون للتعامل اليومي بمحدداته و ثقافته. الفكاك من هذا الوضع يكاد يكون مستحيلاً». انتهت هذه التجربة مع السطو على محله وكانت ستودي بحياته. هنا تيقن أن الحياة أصبحت مستحيلة، فعزم العودة الى الأردن بالرغم من كل التضييق الذي واجهه.
مع الإعلان عن إتفاق أوسلو وصدور قرار بعودة كل المبعدين والذي علم به صدفة، فلم يخبره به أحد حتى رفاقه السابقين، كانت العودة إلى رام الله. الحلم الذى بقى يراوده طوال سنوات الابعاد، فتوقع أن يجدها كما تركها. إلا أنّ مفاجأة كانت في انتظاره. لا المدينة أصبحت كما كانت ولا الناس ولا حتى الأماكن. بعد إتفاق أوسلو، انتشرت المحسوبية، وشحّ العمل، وازدادت البطالة، وغلت المعيشة، فكانت ظروف العمل وصعوبتها تحتم عليه تغيير أماكن العمل، وفاقمت ذلك ممارسات الاحتلال التي بقيت موجودة. وهذا ما أشعره بالانكسار والإحباط. كتب رسالة لصديقه يقول فيها: «عدت إلى الوطن فلم أجده». وهنا تكمن المفارقة المؤلمة، ليظل الوطن في عيون عدنان داغر صورة مخيالية لا يمكن أن تتجسد على أرض الواقع. وبهذا سيعيش الضياع ذاته، لربما الضياع بالعنوان لا يقصد به موسكو، تحديداً، بل الضياع هو أن يفقد المناضل هويته التي ناضل من أجلها واستبعد عن الوطن بسببها.
تحدث أيضاً عن الكثير من الرفاق، رفاق الإبعاد ورفاق الوطن والمحن، كرفيقه ماهر الشريف الذي كان يعد كتاباً عن تاريخ الحزب الشيوعي الفلسطيني منذ أوائل القرن العشرين. تحدث أيضاً عن زيارة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب والتي كانت تعني له الكثير، لذا تركت لها مكاناً قصياً في الذاكرة.
أراد عدنان داغر أن يشارك العالم بأسره شبه السيرة هذه التي تروي جانباً مهماً ومفصلياً في حياته. حين نطلع عليها، نجد أننا نطالع سيرة ذاتية من نوع ذلك الأدب السيري الذي لا يحدد في عمر معين أو كما أسميه سن البلوغ الكتابي. لكن عمله سيرة استمدت روحها من الأدب، غير أنّ انطلاقته كانت من الواقع.
حقيقة حين تمتزج السيرة الحقيقية بروح الأدب، فلا أنت تقرأ أدباً خالصاً ولا أنت تقرأ سيرة جافة، إنما تقرأ سيرة حقيقية مكتوبة بلغة أدبية رشيقة لم تطلها يد الغربة، وسرد جميل غير مطوط يتماشى والواقع، كذلك عبارات عدنان داغر واضحة، ولم يضيعها الزمن برغم أن الكثير من الأشياء ضاعت منه، حتى الكتب باللغة العربية لم تكن متاحة في غربته. من خلال «ضياع في موسكو» التي اقتبس عنوانها من رواية، يأخدنا عدنان داغر في رحلة حياتية مريرة ترصد تجربة حقيقية لمناضل من الحزب الشيوعي الفلسطيني. تجربة ترصد مراحل حياتية من عمره داخل الوطن، خارجه والعودة إليه مجدداً..
ومن خلال هذه المراحل، نكتشف عدنان داغر ونكشف طبيعة الوقت آنذاك لنستقرئ مما كتبه راهن اليوم، كما أنه زود هذه السيرة بقصاصات جرائد تتناول قضية ابعاده وكل ما كتب عنه وقتها. حين تكون فلسطين على شاكلة سيرة ضياع، فحتماً سيكون الضياع في موسكو. وحين يكون الوطن سيرة، فحتماً سيكون سيرة المناضل الفلسطيني عدنان داغر.