عاندت اللغة الإنكليزيّة طويلاً شخصيّة شرائط الكوميكس مافالدا الشديدة الشهرة في أجواء الثقافة الإسبانيّة اللاتينية والتي يعشقها ملايين القراء كباراً وصغاراً، ويعيدون قراءة أعمالها حول العالم بداية من 1964 لغاية اليوم. ويعتبر الشريط الهزلي الذي هي نجمته، الأكثر مبيعاً في تاريخ أميركا اللاتينية والأكثر ترجمةً على الإطلاق. فقد انتظرت بعض رسوماتها المُجمعة لغاية عام 2005 لتظهر في لغة شكسبير (ترجمة أندرو غراهام يول) رغم أنها كانت نُقلت قبل ذلك بكثير إلى 25 لغة حيّة، بما فيها عدّة لهجات من الصينية. وعند سُئل ناشر مافالدا الأرجنيتني عن سبب ذلك، أجاب بأن وكيله في الولايات المتحدّة طالما شكا من أن مافالدا كانت «أعقد بكثير من أن يفهمها الأطفال في أميركا الشمالية». وللحقيقة، فإنّ هذه الشخصيّة الكرتونيّة التي أبدعها الفنّان الأندلسي الأرجنتيني الإسباني خواكين سلفادور لافادو تيخوان (1932 ـــــ 2020) الشهير باسمه الأدبي كوينو Quino، كفتاة مشاغبة في السادسة من العمر بشعرها الأسود الأبري والعيون الدائريّة البريئة والابتسامة العريضة، تطرح بالفعل ـــ كما الفتيات الصغيرات في كل مكان ــــ أسئلة محرجة جداً للكبار. تقول لوالدتها، الغارقة في إنجاز الغسيل: «ماذا كنت ستصبحين لو كانت لديك حياة؟»، ولوالدها: «كيف يمكن في عائلة الأب أن الأبناء يريدون أن يصبحوا بدورهم آباء أيضاً؟». لكن هذا النقد الساخر لمنطق الحياة الاجتماعيّة للطبقة الوسطى مكثّفاً في أسئلة لاذعة قصيرة على لسان الصبيّة القريبة من القلب لم يكن سوى مساحة واحدة من فضاءات عدّة لجلد العسكرتاريّات الانقلابيّة، والنزعة الاستهلاكية الرأسماليّة والبطريركيات الذكوريّة، ومؤسسات الديّن الرسميّ، أبدع كوينو في تضمينها شرائط رسومات الكوميكس القصيرة لشخصية مافالدا، عابرة للأعمار والثقافات والطبقات والأزمنة.
كانت مافالدا وقت ظهورها في الصحف اليوميّة (1964 ــــ 1973) سابقة لعصرها، مفكّرة يساريّة ومناضلة نسوية وناشطة بيئيّة، التقط من خلالها كوينو روح جيل كامل عصفت به موجات الاضطراب السياسي والاقتصادي زمن الانقلابات العسكريّة اليمينية المتأمركة عقدي الستينيّات والسبعينيّات. وقد لحقت بها للظهور في ذات الأشرطة شخصيّات أخرى كل منها يحمل رمزيّات شديدة التعقيد، يبدع كوينو في تقديمها بريئة بسيطة قريبة إلى جوار نجمته الأشهر. خذ مثلاً ليبريتد (أيّ حريّة وهو اسم صديقة مافالدا القصيرة). رسمها كوينو كذلك لأن «الناس كثيراً ما ينسون الحريّة ويظنّونها أمراً بسيطاً»، فيما حيوانها الأليف سلحفاة تدعى «بيروقراطيّة». وعندما سألوها لم هذا الاسم تحديداً، قالت بأنها بحاجة لبعض الوقت للإتيان بإجابة، لكنّها لا تعرف بالتحديد مقدار ذلك الوقت. ولذلك فليس علينا سوى الانتظار. وتشتهر مافالدا بأنها لا تطيق تناول الحساء الذي كان رمزاً مجازياً للقاذورات اليوميّة التي تسقيها أجهزة الإعلام الناطقة باسم النخبة الحاكمة للمواطنين.
في اليوم التالي للانقلاب العسكري في الأرجنتين عام 1966، ظهرت مافالدا في شريط الكوميكس الهزلي لجريدة «الموندو» تتناثر كلمات قليلة من فمها وهي تقول: «... لكن...، الذي علموني إيّاه في المدرسة...» ثم تصمت. ولحسن حظ كوينو، فإن تلك الجملة الشهيرة غير المكتملة التي أصبحت في ما بعد طريقة مافالدا في التعبير عن الازدراء والاستنكار لما يحدث حولها، التقطها القرّاء النبهاء وحدهم، من دون أن يدرك مغزاها الجنرالات الانقلابيون وإلا كانوا أطلقوا على رأسه النار كما فعلوا بالألوف من المثقفين والطلاب، أو أخفوه إلى الأبد.
بدأت موهبة كوينو في الظهور مبكراً. تأثر بشكل كبير بعمّ له كان رساماً تبنّاه مراهقاً بعد وفاة والديه المنحدرين من الأندلس، وكانا جمهوريّي التوجه هاجرا إلى بلدة منسيّة في أطراف ولاية ميندوزا في الأرجنتين. وقد انتقل إلى العاصمة بيونس آيرس في 1950 متأبطاً حلم أن يصبح رسام كاريكاتور والتحق بمدرسة للفنون الجميلة. هناك شرع يرسم كاريكاتورات مليئة بروح السخرية والدعابة لصحف ومجلات محليّة. مافالدا كانت بداية شخصيّة ابتدعها في 1963 لإعلان أجهزة منزليّة كُلّف به ولم يحظ بموافقة المعلن حينها. لكنّه أعاد تقديمها في شريط كوميكس هزلي في 1964 لتحقق نجاحاً فوريّاً. كانت تلك الشرائط التي ابتدعتها الصحافة الأميركيّة وأصبحت لازمة للصحف اليوميّة في كل الأميركيتين – بما فيها الأرجنتين – مصدر إلهام لكوينو الذي تأثر بشريط تشارلز شولتز الكوميكس الهزلي الشهير بشخصيّة الطفل اللاذع بينتس Peanuts. لكنّ مافالدا تميّزت بحملها هموم وانشغالات ناس الطبقة الوسطى العاديين، ومضمونها السياسيّ المقذع، وانحيازها ضد الرأسماليّة والنخب الفاسدة، ودائماً بكلمات قليلة لكنّها مثقلة بالمجاز. لقد امتلك كوينو ثقافة عميقة، وطاقة نقدّية هائلة وقدرة لا تدانى على التقاط مزاج الناس مع كثير من العطف والرّقة. فكأنّه «رجل حكيم يبلغ 10 سنوات وطفل في الوقت نفسه». ولا يزال كثير من النكات الساخرة التي ألقتها مافالدا عن الأوضاع الاقتصادية والسياسيّة في الأرجنتين كما لو أنها رٌسمت بالأمس، تماماً كما نقرأ في العالم العربي كاريكاتورات الفنان العظيم ناجي العلي هذه الايّام وتتجدد دهشتنا كل مرّة كيف كان هذا الرجل الذي غُيّب منذ عقود يرسم حنظلة – شخصية رسوماته الشهيرة – كأنّه يعيش معنا اليوم ويحكي بسخريّة غاضبة عن واقعنا الراهن المرير.
كانت مافالدا وقت ظهورها في الصحف (1964 ــــ 1973) سابقة لعصرها، مفكّرة يساريّة ومناضلة نسوية وناشطة بيئيّة


من المحزن أن أمل مافالدا الكبير في السلام العالمي - وهي كانت تحلم بأن تصبح مترجمة للأمم المتحدة - لم يتحقّق أبداً. إذ أن كوينو توقف عن رسم شريطها الهزلي في 1973، بعدما لم يعُد ممكناً له تمرير مزيد من الرسائل الملغّزة من دون المخاطرة بسلامته الشخصيّة. فرّ من الأرجنتين عام 1976برفقة زوجته (ومديرة أعماله) بعدما اعتُقل ناشراه دانيال ديفينسكي وكوكو ميلر - بسبب نشرهما كتباً تجمع شرائط مافالدا - من قبل الطغمة العسكريّة الجديدة. استقر في ميلانو (إيطاليا)، وبقي هناك لحين سقوط الحكم العسكري الفاشي في 1983. وهو قال في مقابلة صحافيّة مرّة «إنّ مافالدا لو بقيت لما بعد انقلاب 1976 لأُخفيت كما عشرات الألوف من الشبان الذين تعرّضوا للتعذيب والقتل وأخفيت آثارهم على يد النّظام المدعوم من المخابرات المركزيّة الأميركيّة». ويبدو أنّه أحس بأن الأرجنتينيين لم يسامحوه قط لتغييبه مافالدا وصديقاتها، لكنه تمسّك بقراره، ورسم مافالدا استثنائيّاً فقط لدعم منظمة اليونيسيف، واحتجاجاً على حادثة اغتيال رسامي المجلّة الفرنسيّة الساخرة «شارلي ايبدو».
بعد عودة كوينو إلى الأرجنتين، واصل الرسم الساخر مقدّماً شخصيات جديدة ومنها رجل صغير حائر يحاول عبثاً فهم معنى عالم يزداد عدائيّة. لكنّ مافالدا عاندته وبقيت الأهم والأشهر، وتحوّلت إلى شريط للرسوم المتحركة (صدر منه موسمان)، وقدّم لطبعاتها المترجمة عمالقة الفكر مثل أومبرتو إيكو وخوليو كورتاسار وإريك هوبسباوم. «إديسيوني دي لا فلور» دار النشر الأرجنتينية الصغيرة التي اعتُقل مديراها في 1976، وبقي كوينو مخلصاً لهما ورافضاً عروضاً خياليّة من دور نشر عالميّة كبرى، أصدرت يوم وفاته طبعة جديدة خاصة لأعمال «مافالدا» الكاملة، فنفدت خلال يومين، بينما أعلنت جمهوريّة الأرجنتين الحداد العام ونُكّست الأعلام. بعد تقاعده رسمياً عام 2006، مُنح كوينو «جائزة أمير أستورياس» المرموقة عن مجمل أعماله، وربّما بذلك يكون رسام الكاريكاتور الوحيد الذي لديه كويكب مسجّل رسمياً باسمه تكريماً له (منذ 1999، الكويكب رقم 27178). وباستثناء ابنته (الفنيّة) مافالدا، لم ينجب وبقي مع زوجته أليشيا 57 عاماً لم يفترقا خلالها أبداً إلا عندما توفيت قبله في 2017.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا