بعد النكسة التي ألمّت بالمؤسسات الفنية في بيروت جرّاء انفجار الرابع من آب، أطلقت «غاليري مارك هاشم» معرضاً إلكترونياً كتحية إلى المشهد الفني البيروتي على موقع «آرتسي». تحت عنوان «صباح الخير يا بيروت»، تظهر بيروت في المعرض بوجوه عديدة، من خلال تجارب عربية ومحليّة مختلفة بين الوسائط كافّة: النحت، الفوتوغرافيا، اللوحات الفنية، الكولاجات والتجهيزات الفنية. هناك أسماء عربية ومحليّة، تجتمع لتضيء على دور بيروت الأساسي في استضافة تجارب عربية كثيرة لأجيال مختلفة من الفنانين. وكما جاء في البيان، فإن هذا المعرض الجماعي لا يتوقّف عند استعادة بيروت ما قبل الانفجار، بل يوجّه تحية إلى بيروت العقود الماضية وصولاً إلى فترة الستينيات التي كانت فسحة لقاء لمعظم التجارب العربية في الفن والشعر والمسرح...
«ميراث» للفنان العراقي نزار يحيى (برونز – 84×73×22 سنتم – 2016)


من دون عنوان للفنان الفلسطيني ناصر السومي (أصباغ طبيعية وموادّ مختلفة على كانفاس – 100×100 سنتم)

في المعرض الافتراضي أعمال لروّاد المحترف التشكيلي اللبناني، مثل هيلن الخال وألفرد بصبوص، وصولاً إلى أجيال مختلفة من الفنانين منهم الفنان حسين ماضي، بالإضافة إلى أعمال لأكثر من 20 فناناً. «صباح الخير يا بيروت»، هكذا أطلّ حنظلة على المدينة اللبنانية أثناء الاجتياح الإسرائيلي في رسمة ناجي العلي. استعادة هذه العبارة كعنوان للمعرض، بعد انفجار بيروت، يضعها في سياق جديد لكن ثابت، كجملة تربط بين مختلف النكسات التي شهدتها المدينة حتى في أيّام السلم. يطلّ علينا حنظلة مجدّداً في المعرض في عمل «صباح الخير ناجي العلي» للفنان العراقي ضياء العزّاوي. العمل عبارة عن مجسّم لحنظلة مصنوع من الستانلس ستيل، ينظر إلى الأمام هذه المرّة رغم أن ملامحه ملساء وليست ظاهرة تماماً. يطلّ حنظلة اليوم، وسط نكبات كثيرة، ومشاغل وقضايا عربيّة مستجدّة لم يتح لرسام الكاريكاتور الفلسطيني الراحل ناجي العلي أن يرسمها. بعيداً عن القضايا السياسية الراهنة أو الماضية التي يحويها المعرض، هناك استعادة لهلن الخال من خلال عرض لوحتين من الفترة الأخيرة من حياتها. بالإضافة إلى لوحاتها وتجربتها المتشعّبة في الرسم، بتنقّلها بين مدارس عدّة منها التكعيبية والانطباعية... تُعدّ الخال واحداً من الوجوه الأساسية في الوسط الثقافي والفني البيروتي طوال عقود. الفنانة التي افتتحت «غاليري وان» في بيروت خلال الستينيات، رافقت أيضاً تطور المحترف التشكيلي اللبناني من خلال كتاباتها النقدية في صحف عدّة منها «ديلي ستار»، بالإضافة إلى توثيقها للتجارب النسائية في الفن اللبناني. اللوحة المعروضة تعود إلى سنة 2002، حين تخلّت الفنانة عن الخطوطية في رسماتها مجدّداً، منصرفة إلى التركيز على اللونية، بالاعتماد على تدرّجات لونية متقاربة وهادئة مكتفية بالفصل في ما بينها من خلال الكتل والألوان نفسها مثل تدرّجات الأخضر والأزرق التي تستحضر مشاهد طبيعية.

من دون عنوان للفنانة اللبنانية هيلن الخال (زيت على ورق مثبت على خشب – 24×28 سنتم – 2002)


«صباح الخير حنظلة» للفنان العراقي ضياء العزاوي (ستانلس ستيل – 67×45×30 سنتم– 2016)

تقدّم الغاليري أيضاً، واحدة من أكثر التجارب تفرّداً في المحترف اللبناني. سنقع على الأعمال الملوّنة للفنان اللبناني حسين ماضي منها عصافيره المجرّدة التي تقدّم اقتراحات لونيّة لا تنضب، بالإضافة إلى منحوتة بلا عنوان لامرأة معدنية تجلس على مقعد أحمر. وجود عمل للفنان المصري حامد عبد الله (1917 – 1985) هو دعوة لاستعادة تجربة طليعية في المشهد الفني المصري والعربي الحديث. لم يركن الفنان المصري الراحل إلى أسلوب واحد في الفن. أعماله، ظلّت لفترة طويلة مساحة للتجريب بين أساليب مختلفة مثل الواقعية والتجريدية وغيرهما من المدارس. كان هذا قبل وصوله إلى لوحته التي جمعت مفاهيم مجرّدة وأشكالاً بشرية، وأحرفاً قرّبت بين أديان وثقافات عدّة. عبد الله الذي يعدّ أبرز فناني الحداثة في العالم العربي، لم يقف استخدامه للحروف عند حدودها الشكلانية. في رسوماته، تصل الحروف والكلمات إلى تعبيرات بصريّة عن معانيها منها الحب والحرية.
وبالعودة إلى بيروت، تقترح الأعمال المعروضة صوراً كثيرة للعاصمة وتاريخها. أبنية بسام كيرلس المهدّمة والمتصدّعة، تحمل بطريقة أو بأخرى علاقتنا بالأمكنة في هذه البقعة من الأرض. الأبنية هي قالب لذاكرة سياسية واجتماعية متصدّعة، مليئة بالندوب. في منحوتاته، نقع على أبنية ملتوية، مصنوعة من الألومنيوم، هي عمارات مألوفة لنا. تصدّعات تصبح العدسة التي يرى الفنان العالم من خلالها، حين ينقلها إلى بعض المعالم والتماثيل العالمية مثل تمثال الحرية النيويوركي. تحضر بيروت كخيالات داكنة في لوحات شربل صامويل عون، أو كمشاهد كابوسية ترصد المدينة وتشقّقاتها اليومية العمرانية والمَدينية وغيرها. إنها مشاهد لعمارات وبقع خضراء ضئيلة لكن مصنوعة من الرماد والحجارة وأشواك الصنوبر وبعض المواد الطبيعية الأخرى. هناك حرائق مشتعلة أو منطفئة تجاور عمارات بيروت الشاهقة. لا تقتصر أعمال شمعون على اشتغال جمالي فحسب، بل تأتي كنقد لبيروت وعماراتها وتصوّر متشائم عن تحوّلاتها الحديثة. تأخذنا الفنانة زينة عاصي في متاهات بيروت وأزقتها ومحالّها وبيوتها، لكن هذه المرّة من خلال شخوص تظهر في أحدث أعمالها. ترافق المدن أبناءها، وتلتصق بهم. تستخدم عاصي في أعمالها الجديدة النقش، لترسم أشخاصاً يحملون مدنهم على أكتافهم، أو يجرّونها وراءهم. الفنانة اللبنانية التي رسمت بيروت في السابق ضمن لوحات تفصيلية شاملة، تحدّ هذه المرّة من البقع المدينية لكنها لا تتخلّى عنها تماماً. تقف العاصمة بين زمنين في صور اللبناني سامر معضاد. إنها بداية التسعينيات. في الخلفية يظهر ركام المدينة المهدّمة في وسط بيروت حيث يلعب الأطفال بجوار تمثال الشهداء.
استعادة لأبرز وجوه المحترف التشكيلي اللبناني هلن الخال من خلال عرض اثنين من آخر أعمالها


في المعرض، تتنوّع الأساليب والمشاغل الجمالية. هناك اشتغال على الحروفية في أعمال اللبناني جورج مرعب والسوري أحمد معلا. الحروفية هي القاسم المشترك بينهما، إلا أنها تتضمّن اختلافات كثيرة في أساليب استخدام الأحرف. لا يسعى جورج مرعب إلى التناسق، أو التناغم في حروفه التي تبدو متنافرة. كأنها تستغني عن القول والمعنى، حين تتقارب الحروف المتكسّرة وتتصادم لتنتهي على اللوحة كعناصر تجريدية ملوّنة. أما المعلا، فيخطّط قصائد وعبارات متناغمة ومكرّرة أحياناً، كما في في إحدى اللوحات الطولية التي يكتب فيها قصيدة «أراك عصيّ الدمع» لأبي فراس الحمداني. وإن كانت بيروت هي مدينة المعرض كما يشير عنوانها، إلا أنها تصبح تنويعاً على أوطان عربية كثيرة. من العراق نرى بعض أعمال الفنان نزار يحيى. في معجم يحيى الفني، الذي يُراوح بين الرسم والنحت والتجهيزات، سيل من النكبات ودمار الحضارات الذي يبدأ منذ خسارة الأندلس. خسارات لا تنفصل عن الحروب والأزمات المعاصرة في العالم العربي خصوصاً في وطنه العراق. مواد وأساليب مختلفة يلجأ إليها يحيى في اشتغاله المفاهيمي على بعض المواضيع والأرشيفات العربية، التي يعيد بعثها بأشكال مختلفة، منها تحية يوجّهها إلى ابن رشد في واحدة من لوحاته مستخدماً فيها موادَّ مختلفة. الوطن والأرض وألوانهما، تحضر في أعمال الفنان الفلسطيني ناصر السومي الذي يُعدّ من أوائل من عملوا في التجهيزات الفنية عربياً، بالإضافة إلى اشتغاله في الرسم والنحت ووسائط فنية متنوّعة مصنوعة يدوياً. تنقّلت أعماله بين مدن عربية وفلسطينية من بيروت إلى القدس ويافا. وفيها ظلّ اللون النيلي حاضراً كما في معظم أعماله منذ البدايات، مستمدّاً إيّاه من ذاكرته الأولى في بيت أقاربه في فلسطين. اللون نفسه يحمل معانيَ مختلفة منها نبات النيلة في فلسطين، وتدرّجات لون الأزرق في البحر المتوسّط كما في عمله الموجود ضمن المعرض. لا مجال لنا هنا لحصر كل الأعمال في المعرض الشامل الذي يجمع أسماء أخرى مثل رؤوف الرفاعي، إيلي كنعان، سارة شمّة، شوقي شمعون، منى طراد، دبجي وبول غوسيان وآخرين.

https://www.artsy.net/show/mark-hachem-gallery-beirut-art-scene

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا