بدر الحاج، البحّاثة الثقة والمؤرخ، رفيقي في «الجامعة الأميركية» هنا على مطلّ من المتوسّط، ورافع بيرق سعادة، من قبل، ومن بعد، أصدر هذا الشهر بالإنكليزيّة «القدس 1854: التصوير والآثار والاستعمار» عن دار «كتب» في بيروت [Badr El Hage, Al Quds 1854: Photography, Archaeology, Colonisation, Beirut: Kutub, 2020]. يضمّ العمل مئات الصور لمدينة القدس التي التقطها أوغست سالزمان Auguste Salzman لمدينة القدس في شتاء 1854 وهي صور نادرة. ولعلّها الأكثر توثيقاً للمواقع الدينيّة في مدينة القدس في كتابه الصادر عام 1854، وهي أساساً تندرِج تحت بحثه الرامي إلى البرهان على أصالة النصوص التوراتيّة وتأييد ادّعاء عالم الآثار Félicien de Saulcy في إرجاعه تاريخ الآثار المدوّنة تاريخيّاً في حقبة اليونان والرومان في القدس إلى فترة الحكم اليهودي القديم لها.يرى الأستاذ الحاج أنّ القدس جذبت إليها على مرّ العصور فنّانين ورحّالة وحجّاجاً وعلماء من دول عديدة، إضافة إلى أُدباء سطّروا تاريخ الحجّ إليها منذ الأيام الأولى لظهور المسيحيّة. إلّا أنّ المؤلّف بدر الحاج يلحّ ها هنا على أنّ الانجذاب إلى القدس لم يكن آنذاك فقط لقيمتها الدينيّة، بل أيضاً لموقعها الاستراتيجيّ ومكانتها الاقتصادية في سورية الكبرى، فكان الدين غطاء ملائماً لخطط استعماريّة على مدى الألفيّة الأخيرة. ففي السابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1095، أذاع البابا أوربان الثاني خطاباً تاريخيّاً دعا فيه مسيحيي أوروبا إلى حمل السلاح في وجه المسلمين واحتلال الأراضي المقدّسة، فكانت الحملات الصليبيّة وآثارها المدمّرة.

مئذنة الغوانمة عند باب الغوانمة تعرف باسم مئذنة السلطان قلاوون الذي رممها مطلع القرن الرابع عشر (القدس 1854 ـ تصوير سالزمان)


سبيل طريق الواد. النافورة العربية في القدس، بناها السلطان سليمان القانوني عامي 1537 ـ 1536 (تصوير سالزمان ـ 1854)

إنّ الفظائع التي ارتكبها الصليبيّون في تمّوز (يوليو) 1099 كما أتى على وصفها وليم الصوري، أسقف المملكة الصليبية هناك، لهي مثال ساطع على التطهير العرقيّ. ووفق تأريخه، أقرّ الأسقف أنّ الرحمة لم تلحَق بأحد وأنّ المكان بأسره تضرّج بدماء الضحايا. هذا التطهير العرقيّ الذي ارتكبه الصليبيّون يكرّره طبق الأصل المشروع الصهيونيّ في فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر في خطّته الاستعماريّة باسم الدين. إنّ هدف هؤلاء الاستعماريين الجدد كان ولا يزال تأسيس دولة يهوديّة بامتياز. إنّ الصلة الوثيقة بين المشروع الصهيونيّ الأصلي في سورية الكبرى والجهود الغربية للسيطرة على فلسطين جليّة، ليس فقط في الدعم اللامحدود الذي يوفّره الغرب منذ 1948 لإقامة النظام العنصريّ، بل كذلك في مدّ ذلك النظام بكلّ الوسائل اللازمة لإبقائه على قيد الحياة والاستمرار في تنفيذ برنامجه الرامي إلى الاحتلال التدريجيّ لما يسمّونه «أرض الميعاد». يقرّ المؤلّف أنّ سردَ الأحداث التاريخية التي أدّت إلى قيام المشروع الاستيطاني الصهيوني ليس غرضه، فهذه الأحداث ليست ضمن نطاق البحث هنا، لكن من الضروري الإشارة إلى أنّ على الرغم من أنّ المشروع الاستيطاني الصهيوني يرتكز أساساً إلى العنصر الديني، فإنّ مقاومة هذا المشروع لم تكن دينيّة بالضرورة، إذ لم تكن المواجهة بين المُستعمِر وسكّان أهل البلاد النازحين عنها مواجهةً دينيةً كما زعم الغرب وصوّر النزاع على أنّه مواجهة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين الغرض منها السيطرة على الأماكن المقدّسة. هنا يرى بدر الحاج أنّه رغم الحججَ الدينيّة التي تخدمُ المشاريع الاستعمارية وتروّجها، فإنّ مقاومة تلك المشاريع لا تتّخذ إلّا صفة النضال القومي. وعليه، فإنّ القدس على مصاف واحد مع يافا وصفد وحيفا ومرتفعات الجولان.
ينتبه المؤلّف إلى حقيقة أساسيّة يختزلها بقوله إنّ لنشاط المتشدّدين المسيحيين المُغالين في تعصّبهم دوراً خطيراً خلال الحقبة الممتدّة من الحملات الصليبية إلى بداية المشروع الصهيوني. وعليه، فإنّ صُوَر أوغست سالزمان لا تنفصل عن حُمّى الحماس الاستعماريّ الدينيّ الذي شاع في أوروبا وإلى حدّ ما في أميركا الشمالية.
يشير الحاج إلى أنه ليس في صدد مناقشة في ما إذا كانت صائبة وصحيحة القصص والمعجزات التوراتيّة التي يوردها سولسي وسالزمان، إذ يرى أنّ نقاش هذه الصور ليس ضمن إطار دراسته؛ ذلك أنّ المسألة الجوهريّة تكمن في كيفيّة استلهام علم الآثار وإخضاعه لخدمة بعث إمبراطوريات وسلالات قديمة بغرض طرد السكّان الأصليين من بلادهم، كما في فلسطين، للبرهان على أنّ «النصّ المقدّس» على صواب، ولهو سياقٌ فاضح ومُهين. وباختصار، فإنّه استعمار تحت ستار الدين، ولفهم صُوَر سالزمان في إطارها التاريخي، يرى المؤلّف أنّ من الضروري فهم الأسباب الدينية لزيارة كلّ من سالزمان وسولسي إلى فلسطين، ومن هنا معالجته لكتابه في ثلاثة فصول.

مغارة البستان. قبر المسيح. تل وادي الجمجمة. تعرف أيضاً بمغارة ارميا (القدس 1854 ــ سالزمان)


«بركة حمام ستنا مريم» لأوغست سالزمان (خارج أسوار القدس)

يُسهب الفصل الأول في نقاش أنشطة سولسي في مواقع فلسطين الأثرية، وهي ما حفّز سالزمان على زيارة القدس وانكبابه على تصوير معالم المدينة المقدّسة؛ كان سولسي عالم آثار مهتمّاً بالبحث عن مواقع توراتيّة بغرض إلقاء الضوء على تاريخ فنّ العمارة اليهودي، فزعم أن بعض المعالم في القدس سابقة على العهد البيزنطيّ وتعود إلى زمن سليمان وداوود، لا بل إنّه مضى في ضلاله وعيّن سدوم وعمورة في موقعَين خاطئين. وحيث إن أقرانه وجدوا مزاعمه لا تطابق الحقائق التاريخية، قرّر سالزمان الذهاب إلى القدس للدفاع عن مزاعم صديقه سولسي بلجوئه إلى التقاط صُوَر تؤيّد حجّة سولسي الواهية.
في الفصل الثاني من كتابه «القدس 1854»، يركّز المؤلّف بدر الحاج على دور صُوَر سالزمان في تأييد مزاعم سولسي وادّعائه بأنّ التصوير «يؤّدي خدمة للعلم وأن هذه الصُوَر لم تعُد سرداً بل حقائق ذات زخم دافع». لكنّ المؤلّف يرى أنّ فشل سالزمان كان متوقّعاً. الفصل الثالث من «القدس 1854» يشتمل على صُوَر سالزمان للمدينة المقدّسة، فيجد أنّها صور فنيّة لمواقع المدينة الأثرية من حيث الإضاءة والظلال، وهذه تقنية لا سابقة لها في تصوير المدينة المقدّسة، وفي الفصل هذا حشد من صُوَر القدس، سوى ثلاث منها، واحدة لبيت لحم واثنتان لفسيفساء كنيسة المهد في بيت لحم.
ارتكز الغرب إلى منهجيّة بحث تُعيد تركيب الشرق بغرض تطويعه والسيطرة عليه


يلحّ الأستاذ الحاج على أنّ دراسة الماضي أساسٌ لفهم الحاضر ومعياره أنّ الغرب سعى في القرنين التاسع عشر والعشرين لتصويب سهامه على فلسطين، فالغرب ارتكز إلى منهجيّة بحث تُعيد تركيب الشرق بغرض تطويعه والسيطرة عليه. ومن هنا عمد سالزمان وسولسي إلى سرد إشارات الكتاب المقدّس بما يخدم دعوة الحركة الصهيونية إلى عودة اليهود إلى أرض الميعاد، فاستعمار الشرق إذن من باب تمدينه عبر أدبيّات غلاة الإنجيليين، ومن هنا حركة بريطانيا باتّجاه تشريد السكان العرب الأصليين، وعليه كان تحالف السياسيين وعلماء الآثار والاجتماع تحت راية استعمارية تُلقي بظلالها حتى الآن مطلع الألفية الثالثة.
على هذا النحو، كتاب «القدس 1854» ضرورة لا بدّ منها، إذ سدّ فراغاً كان لا بُدّ له من سدّه من باب فهم الحاضر عبر استيعاب دروس الماضي.

* باحث فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا