الآن، بعدما وضعتْ حرب القبائل الفلسطينية والكردية أوزارها جرّاء «السر المهيب» الذي كشفه سليم بركات عن وجود ابنة مخفية مفترضة لمحمود درويش، وبعدما توقفت طواحين الكلام عن الطنطنة التي لا تختلف كثيراً عن ثرثرة الخابزات في طوابين القرى العربية، صار في إمكاننا أن نعيد تقليب الكلام على وجوه شتى، وأن نقول ما يجب أن يقال في هذا المقام. تبارى «فسابكة» العشيرتين الفلسطينية والكردية مستعملين، في معظمهم، رماحاً من قصب وسيوفاً من خشب، فكان الواحد، يا للغرابة، يقاتل بقرنين: الأول من طين والثاني من عجين. ولذلك، كانت نتيجة تلك المباريات خراجاً بلا غلة، لأن الفيسبوك وشبكات التواصل الأخرى تُنتج، في كل يوم، مئات «الكُتّاب والنقاد» والغاضبين، لكن من المحال اعتبار أي واحد من هؤلاء كاتباً أو ناقداً أو مؤرّخاً للأدب أو صاحب رأي يؤخذ في الحسبان. وللأسف، فقد برهنت غبائر تلك «المعارك» أن التفكير الراقي قد مات، وانتصر الغوغاء، وظهر كأن الجميع منهمك في الدفاع عن «هويته» الأقوامية (أي ما قبل القومية) بدلاً من الانخراط في البحث عن الحقيقة. هذا هو الشطط في المرامي الذي يتقنه، أكثر ما يتقنه، ممثلو القبائل والعشائر ولو تبرقعوا ببراقع الأدب والشعر والكتابة، ويعافه أصحاب الآراء الحرة والمستنيرة الكارهة للتعصب.
ثار العجاج إذاً، وسال النقع، لأنّ شاعراً مرموقاً مثل سليم بركات باح بسر ظلّ يكتمه، بحسب روايته، سنوات. أَمَا يدّل ذلك على «العقل البدائي» الذي لم يتمكّن كثير من «أدبائنا وشعرائنا وكتابنا» من مغادرة هذا الوخم القديم والمقيم؟ حتى أن صديقاً أحبه، وهو الناشر المعروف فتحي البس، هدّد صديقي الذي أحبه وأقدره، ماهر الكيالي ناشر كتاب سليم بركات، برفع دعوى قضائية مثلثة الرؤوس: ضد سليم بركات وضده شخصياً وضد جريدة «القدس» التي نشرت حواراً مع الشاعر تضمّن ذلك «الجرح القومي والأخلاقي»! وعزيزنا مراد السوداني، وهو شاعر تولى رئاسة اتّحاد الكتاب الفلسطينيين في مرحلة سابقة، راح يستنخي النشامى لشنّ الغارة تلو الغارة على سليم بركات وكتابه. «عفارم» أيها السادة. فوجئتُ حقاً بهذه النخوة المضرية والحمية الجاهلية التي لم تترك حتى لحملات التكفير والمنع والمصادرة ما تقوله في هذا المضمار. والمؤكّد أن طول اللسان، هنا في هذا الميدان، لا يثبّت باطلاً على الإطلاق.
لنَعُدْ إلى البدايات. ففي نص عنوانه «محمود وأنا» كتبه سليم بركات في تموز (يوليو) 2012، وأعاد نشره في كتاب حواري مع وليد هرمز يقول: «ألقى [محمود درويش] عليّ في العام 1990، في بيتي بنيقوسيا – قبرص، سراً لا يعنيه. كل سرّ يعني صاحبه، لكن ذلك السر لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهل لا تساهل بعده [قال]: لي طفلة. أنا أب. لكن لا شيء فيّ يشدني إلى أبوة [...]. لم أسأله مَن تكون أم طفلته. امرأة متزوجة [...]؟ هل ستفاتح تلك المرأة ابنتها في برهة من برهات نقر السر بمنسره على اللحم، تحت الجلد، بالدم الآخر فيها؟ صارحته المرأة مرتين، ثلاثاً، في الهاتف بابنته، ثم آثرت إبقاء ابنتها أمل زوجها [...]. محمود لم يسأل المرأة، حين انحسر اعترافها، وانحسرت مبتعدة في العلاقة العابرة، عن ابنته. أبوته ظلت تبليغاً موجزاً من صوت في الهاتف عن ابنة لم تستطع العبور من صوت أمها إلى سَمْعِ أبيها [...]. لا بأس، أنا ألفّق لتلك الأبوة إقامة في الكلمات» (انظر: سليم بركات، لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2020، ص 131-140).

مدعاة للحبور
إن الكشف عن وجود ابنه لمحمود درويش، في ما لو كان ذلك صحيحاً حقاً، لا يجرّح مكانة محمود الأدبية السامقة، ولا مكانته الشخصية على الإطلاق، لأن لا علاقة سببية بين الإبداع والأخلاق الشعبوية السارية. فعباس محمود العقاد، على سبيل المثال، أحبل إحدى النساء التي ولدت له ابنه سمّاها بدرية، ولم يعترف بها، مع أنه كان يحبها حباً جماً. فهل تلك الحادثة تقدح بمكانة العقاد الأدبية؟ وهل نقرأ اليوم أشعار عمر بن أبي ربيعة وامرئ القيس وأبو نواس استناداً إلى الوقائع اللاهبة لحياتهم الشخصية أو مسلكهم الخليع، أم إلى جماليات قصائدهم وفنونها التعبيرية والإبداعية؟ ثم إن كشف جوانب مستورة من حياة شاعر مثل محمود درويش، لا يؤثر قط في قيمته الشعرية، بل يتيح أدوات تحليلية إضافية لفهم روافع الإبداع لديه، ودوافع انبثاق القصيدة حين يتحمحم الشعر في داخله.
متى كان في إمكان أيّ شخص أن يحاسب شاعراً استثنائياً مثل محمود درويش على غرامياته، أو أن يحاسب صديقاً له، شاعراً أَكان أو ناقداً أو مؤرخاً، على ما باح به أو استنتجه؟ أنا نفسي توصلت، وغيري ربما، إلى أن جبران خليل جبران لم يكن مثلياً كما هو الشائع، بل كان عِنّيناً، وأن مي زيادة كانت لديها رغبات موؤودة وأنوثة مقتولة، الأمر الذي يشبه عنّة الرجال، وأن خليل حاوي وقع في تلك المعضلة في أواخر سني حياته، وعلى غراره عانى أنور المعداوي من هذا الداء. وربما كانت استنتاجاتي كلها غلطاً بغلط، أَفتأتيني العشائر اللبنانية لتطالبني بتعويض السمعة؟ هل هذه طريقة الكُتّاب والنقاد ومؤرخي الأدب والباحثين؟ ولماذا لم تثر حمية الأخلاق الحميدة حين صدرت مذكرات فدوى طوقان التي أمكننا إحصاء ما لا يقل عن اثنتي عشرة علاقة غرامية، علاوة على علاقة إضافية دهمتها في الستين من دون احتساب قصتها مع أنور المعداوي؟ وهل يعرف «طخيخة الكيبورد» وكتائب الفيسبوك (أقصد كُتاب الفيسبوك) أن شاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان صاحب نشيد «موطني» وقصيدة «الشهيد» المشهورة التي يقول مطلعها الجميل: «عبسَ الخطبُ فابتسَمْ/ وطغى الهولُ فاقتحمْ»، كان يعيش مع شاعر فلسطين الكبير عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) والشاعر السوري جلال زريق في القدس حياة لاهية ولاهبة، وينظم معهما القصائد المكشوفة من عيار التائية المشهورة جداً (يا شهر أيار...)؟ ولماذا لم يُقَمِ الحدّ على بلال الحسن عندما أفاض في الكلام على غسان كنفاني، وكيف كان يمضي الصيف في دمشق، حين يعود من الكويت، مع كزليات الشام (بنات الهوى)؟ ما كان ينقصنا فعلاً أن يأتي إلينا اليوم شُعرور استهواه الغرور لأنه صار يعرف كلمة «بونجور» ليوقد مع الشعارير نيران معارك لا طائل منها. إن ما كتبه سليم بركات لا يسيء إلى محمود درويش البتة. ما يسيء له حقاً، ولتاريخ فلسطين البهي، هو تلك الحملات الشائنة ضد الكتابة المتحررة من قيود الجهل والجهالة والجهلوت والجاهلين.
هل صار الوهابيون والدواعش هم قضاة هذه الأيام التاعسة والمنحوسة؟

فإذا كان ما قاله سليم بركات صحيحاً، فهو مدعاة للسرور والحبور، وعلينا أن نبدأ رحلة التفتيش عن ابنة محمود درويش لعلنا نجد في ملامحها صورة حية لمحمود. وعلينا السعي بلا كلل للعثور على تلك المرأة التي أحبها درويش وولدت له ابنة، وخبأت ذلك السر طوال سنين. وسيكون مدهشاً ورائعاً أن يعود إلينا محمود درويش في صورة فتاة تحمل جيناته وملامحه وربما صوته ومزاجه. أما إذا كانت الحكاية كلها غير قابلة للبرهنة عن صحتها، خصوصاً أنْ لا شهود عليها غير سليم بركات الذي ربطته بمحمود درويش علاقة وثقى جداً، فما الضير إذاً؟ إنها مسألة يتحمّل مسؤوليتها المعنوية سليم بركات نفسه، وهذه هي حدود المسألة التي لا يمكن إصدار الحكم فيها. التاريخ وحده من شأنه أن يكشف الحقيقة أو يطمرها أو يهملها. لذلك لا معنى، على الإطلاق، ولا قيمة لحملة بني عبس على سليم بركات، ولن يكون لها أي أثر أدبي البتة.

أخلاق الدهماء والدواعش
أدهشتني، ولم تفاجئني لغة بعض الردود الهذيانية التي استشاطت غضباً على سليم بركات لأنه صوّر محمود درويش، بحسب زعمهم، كأنه فاسق، واستعمل بعضهم كلمات استنكارية لرد فرية «الزنى» و«الفجور» و«الفسق» عن محمود. ويحق لي أن أغضب على هذه اللغة التي أقل ما يقال فيها أنها «مقلعطة». فهل صار الوهابيون والدواعش هم قضاة هذه الأيام التاعسة والمنحوسة؟ أنا نفسي أعرف، معرفة وثيقة، ما لا يقل عن أربع تجارب غرامية لمحمود درويش لا يتكلم عنها أحد. غير أني لم أعرف زنى أكبر من زنى الفكر وأثقل منه، ولا أعرف فسقاً وفجوراً يفوق فسق الكُتّاب الدواعش حتى لو اكتسوا ثياباً عصرية، ونزعوا العمائم عن رؤوسهم التي لا تحتوي أدمغة حقيقية، بل ثعابين هندية ثاوية بدلاً من المخ والمُخيخ والبصلة السيسائية. وأنا لم أنسَ حتى اليوم كيف فرح بعض الإسلامانيين لموت محمود درويش، وراحوا يهزأون بأحزاننا يومذاك، وكيف طفقوا يستعملون كلمة «فَطِسَ»، ويضيفون إليها عبارة «إلى جهنم وبئس المصير»، ثم يردّدون. «ولا تأسَ على القوم الكافرين» لأن محمود كان عضواً، في يوم من الأيام، في الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
إنني أتفهم، بلا ريب، غضبة الحانقين ومنافحتهم عن محمود درويش بشتى العبارات، حتى لو كانت قاسية، إذ إنهم رأوا، على الأرجح، في كلام سليم بركات ما يمسّ هويتهم الوطنية ويخدش أيقونتهم الفريدة. فمحمود درويش يجسد، بلا شك، أحد أبرز عناصر تكوين الهوية الفلسطينية المعاصرة المهددة دائماً بالمحو والاندثار. لكن، ما لم يدركه كثير من الغاضبين من ذوي النيات الحسنة، أن الهوية الفلسطينية التي صنعها محمود درويش ومَن سبقه أو جايله أمثال إبراهيم طوقان وأبو سلمى وكمال ناصر وهشام شرابي وفايز صايغ وأنيس صايغ ووليد الخالدي وإدوارد سعيد وياسر عرفات وجورج حبش وخليل الوزير والمطران إيلاريون كبوجي، فضلاً عن أفواج من الفرسان الذين ساروا على درب هؤلاء، هي نقيض تاريخي وثقافي للهوية الشوهاء التي يحاول أن يحوكها اليوم «فسابكة» وشيوخ ودعاة ومروجو عقائد من طراز فقهاء التعصب والتكفير، ومهيّجو الغوغاء والدهماء.
العاقل، في هذه الأيام، هو من يرفض لغة تلك المعارك الفيسبوكية والمنازلات الهابطة، وهو من يغلق فمه قبل أن يغلق الحكماء آذانهم عنه، وإذا أساء وانحط يغلقون شدقه.