شكّلت كارثة كورونا حدثاً عالميّاً سيّئاً بتداعياته المختلفة التي أدّت إلى إقفال شبه تام لمرافق الحياة. إقفال لم يعهده التاريخ البشري كما نذكر؛ أُقفلت المرافق الاقتصاديّة والفكريّة والفنّيّة والثقافيّة، يأتي على رأسها الغاليريهيّات الفنّيّة والمتاحف الصغرى منها والكبيرة، الخاصّة منها والعامّة، وقد حُرم مريدوها ومحبّو الفنون والثقافة من ارتيادها، امتدّت على أشهر عدّة. من بين هذه المتاحف نذكر «اللوفر» في باريس والقصرين الكبير والصغير اللذين تُقام فيهما باستمرار معارض قديمة وحديثة ومعاصرة، وكذلك الأمر في دول أوروبّيّة أخرى كبريطانيا وألمانيا... أمّا في العاصمة الإيطاليّة روما فنذكر كنيسة السيستينا (la Chapelle Sixtine) الموجودة في دولة الفاتيكان داخل العاصمة.
لوحة «الإغواء والطرد من الجنة»

هذه الدولة التي لا يتعدّى عدد سكانها أو مواطنيها المئات القليلة تحتضن أهمّ صرح فنّيّ تاريخيّ من عصر النهضة؛ هذا الصرح الفنّيّ الذي سنتوقّف عنده وعند مُبدعه الفنان الإيطالي ميكلانجلو (1475- 1564). يعدّ ميكلانجلو أحد ثالوث عصر النهضة مع الفنانَين ليوناردو دافنشي ورافاييل. قدم هؤلاء الثلاثة للفن ولإيطاليا أبعاده الإنسانيّة والفكريّة والجماليّة. اختصر أنجلو في أعماله الجمال والقوّة والإيمان والعبقريّة. إذا كان دافنشي قد تأثر بفلسفة أرسطو الواقعية فإنّ ميكلانجلو قد تشبّع بفلسفة أفلاطون ومُثُله الروحانية المطلقة، وبخاصة في قضيّة الخلق والتكوين، وقضيّة الحبّ والجمال، وأشكال الطبيعة التي تختصر في المثلث والمربّع والدائرة كأبجديّة مكوّنة لهذه الطبيعة. استوطنت هذه الرؤية نفس الفنان، وانعكست في جميع أعماله على مختلف أشكالها. أبرز ما يظهر ذلك في عمله الخالد «الخلق والتكوين» في كنيسة «السكستينا» (أو السيستينا) في (دولة) الفاتيكان، الذي جاء تنفيذه على مدى أربع سنوات قضاها الفنان مستلقياً على ظهره متحرّكاً فوق سقالات ثابتة.
أدخل ميكلانجلو اللا تناغم إلى عصر النهضة، وكان السبيل إلى وجود التيار الباروكي الذي عُرف بعصر الباروك (تحدّثنا سابقاً عن أحد أركانه الفنان كارافاجيو).
في أعماله، هناك تلازم بين الفن والعري لإيمانه بقدرة الجسد البشريّ العاري على حمل جميع الأفكار والعواطف والتعبير عن مختلف الانفعالات. تحوّل ميكلانجلو إلى أعظم فنان في إيطاليا قبل بلوغه الثلاثين من عمره. كثيرة هي منحوتاته التي تتوزّع في روما، أشهرها تمثال «داود» (David) الذي بلغ ارتفاعه حوالى ستة أمتار، ممسكاً بمقلاع في انتظار جالوت عدو شعبه ليخلصهم منه. جاء التمثال ليعكس مفهوم ميكلانجلو عن الجمال المثالي للشباب. وهناك تمثاله الأشهر للنبي «موسى» (Moise) الذي حيكت حوله القصص الكثيرة والروايات! وهناك عمله الموجود في الفاتيكان «بييتا» (La pieta) الذي ظهرت فيه العذراء جالسة تحمل بين يديها جسد ابنها المسيح بعد الصلب.سنتوقف، تصويريّاً، عند عمله في «السكستينا» الذي يُعتبر محجّة لزائري الفاتيكان، والذي كانت لنا فرصة زيارته أكثر من مرّة أثناء وجودنا في روما. يحمل القصر، أو الكنيسة، اسم البابا سيكست الرابع (Sixte IV) (1471- 1484) الذي طالب ببنائه وأراد بناء صالة تتسع لحوالى مئتي شخص أثناء الاجتماعات. انتهى العمل على القصر والصالة عام 1483، وقد احتوى أعمال موزاييك في مداخله، ويُذكر أيضاً أنّ البابا سيكست الرابع طلب من بعض الفنانين المساهمة بتزيينه (علماً أن طول الصالة يبلغ 40,23 متراً، وعرضها 13,40 متراً، وارتفاعها 20,70 متراً).

كنيسة «السيستينا»- منظر عام لعمل ميكلانجلو

تقول الرواية إنّ البابا يوليوس الثاني استدعى الفنان ميكلانجلو إلى روما عام 1505طالباً منه زخرفة سقف مصلّى الكنيسة. ارتاب الفنان من هذا العمل الضخم مخافة الفشل، متمنياً على البابا إسناده إلى فنان آخر متخصّص، كون ميكلانجلو نحاتاً أكثر منه مصوّراً (رسّاماً). لكن البابا أصرّ على قيام أنجلو بالمهمّة كأمر ملكيّ. لم يكن أمام الفنان إلّا الامتثال للأمر، وبدأ العمل عام 1508 من دون توقف، وبشكل متواصل على مدى أربع سنوات، مستلقياً على ظهره، ويداه مرفوعتان إلى أعلى، يعمل وحيداً، بخلاف ما كان يحصل مع الفنانين الآخرين الذين كان يعاونهم طلاب فنون وحرفيون. جاء هذا العمل، حين الانتهاء منه، بمثابة معجزة إنسانيّة فرديّة. كاد الفنان أن يدفع حياته ونظره ثمناً له بسبب تساقط الألوان عليه بتركيباتها المختلفة. يحكي العمل قصة الخلق، مُقسّم إلى تسعة أجزاء، أو مجموعات، مساحتها الإجماليّة ثلاثة آلاف وخمسمئة متر مربّع (3500 م2) يتقاسمها ثلاثمئة شخص!
أدخل ميكلانجلو اللا تناغم إلى عصر النهضة، وكان السبيل إلى وجود التيار الباروكي


استُعمِلت في الجداريّة تقنيّة الفريسك بطبيعة الحال، ونعني بها استعمال مادّة لونيّة مُحضّرة باليد يُرسن بها على الجدار؛ هذه التقنيّة التي كانت متّبعة قبل عصر، وقبل اكتشاف تقنيّة القماش. توزّع تأليفها على أشكال هندسيّة (المثلث والمربّع والدائرة) عملاً بنظريّات أفلاطون، كما ذكرنا. يضمّ الجزء الأوّل تسع لوحات حيث الصورة الأولى تُظهر الإله يفصل النور عن الظلام. أما الصورة الثانية ففيها مثلث الإله يخلق الكواكب، وفي الثالثة يبارك الإله الأرض. أما الجزء، أو المجموعة الثانية، فقد قسّمها إلى ثلاث رسوم أو صور، الأولى خلق آدم، والثانية خلق حوّاء، والثالثة الإغواء والطرد من الجنة. الجزء الأخير انقسم أيضاً إلى ثلاث صور، تناولت قصّة نوح والطوفان وتضحية نوح ونشوة نوح... ملتزماً بالتقسيم الزمني للأحداث. جاءت شخوصه عارية بخلاف أعمال الفنانين الآخرين ليمثّل رؤيته الخاصّة في فنه، وهذا ما اعتُبِر بمثابة سابقة في الفن. خلا عمله من الزخارف كالنبات والأشجار باستثناء شجرة الإغواء. ظهرت حوّاء في وضع شهوانيّ للغاية، تقود آدم ضخم الجثة راضياً مرضياً منقاداً إلى إغوائها ليظهر في وسط المساحة نوعان من الحياة: حياة النعيم وحياة الجحيم، أو الجنة والأرض، أو الأبديّة والخلود، بينما الأفعى ملتفّة على الشجرة. على يمين اللوحة ظهر آدم وحوّاء مطرودَين من الجنة منبوذَين خائفَين جزعَين لاحقهما الملاك طارداً إياهما إلى أرض الفناء والمادّة. في الجزء المتعلق بخلق آدم، ظهر الأخير مستلقياً على الأرض، بتكوين مثلث، ملتصقاً بهذه الأرض وبترابها الذي وُلد منه، ناظراً بعينيه إلى الربّ مستسلماً كأنه في غيبوبة. على اليمين، ظهر الربّ مادّاً أصبعه ليبارك آدم ويدبّ فيه الحياة، وقد ظهرت حوّاء في الكتلة التي تضمّ الربّ والملائكة بتكوين دائريّ، كما برزت تشققات في اللوحة قصدها الفنان للإيحاء بأنّ السحب والجبال تتزلزل بسبب تلك اللحظة التاريخيّة من عمليّة الخلق.
يُقال إنّ أثر العمل على البابا كان كبيراً جدّاً، فما إن رآه حتى خمدت قواه أمام المشهد المذهل منخرطاً في صلاته مناجياً ربّه. وقد كان للعمل أثر كبير فيما بعد على فناني عصره، على الصعيدَين الفنيّ والفكريّ. لكنّ هذا العمل الجبّار لم يحُل دون العداء الكبير للفنان من قِبل رجال الدين والفكر المناهضين لحركة الإصلاح الديني التي كانت سائدة حينها (كما حصل مع الفنان كارافاجيو وغيره من الفنانين الآخرين). وقد سرت قصص كثيرة حول ظروف العمل كقول الفنان للبابا إنه أراد أن يضع وجه أحد الرهبان كرمز للشيطان في الجزء المتعلق بيوم الحساب في أسفل العمل. أعطت «السكستينا» للفاتيكان مكانته وشهرته الفنّيّة والسياحيّة، يؤمّها الملايين من البشر سنويّاً لرؤية جداريّة عملاق عصر النهضة ميكلانجلو، الذي وسم عصراً بكامله ونهضة احتاجها العالم لتطوّر الفنّ والبشريّة.

* أكاديمي في الجامعة اللبنانية