أول من أمس، رحل المؤلف الإيطالي الكبير إينيو موريكوني عن 91 عاماً. كم جيلاً عرفه؟ وكم جيلاً سمع موسيقاه في صالات السينما؟ عاش أكثر من تسعة عقود وبقي منتجاً حتى آخر رمق. جيل الستينيات يعرفه وكذلك الجيل الجديد، وما بينهما. بالأمس انطلقنا في تكريمٍ لرموز موسيقية إيطالية، فاخترنا ثلاثة منها (نشرنا ملفاً، والثاني ينشَر قريباً)، لكن لم نكن نعلم أن رحيل عرّاب موسيقى الأفلام الإيطالية (وغيرها)، سيفرض تحيةً رابعة، هذه المرّة على شكل عزاء للشعب الإيطالي ولعشاق السينما والموسيقى في العالم.إينيو موريكوني مولود في روما عام 1928. بدأ مسيرته في الخمسينيات بعد إتمام دراسته الموسيقية، متّجهاً نحو التأليف الكلاسيكي المعاصر، الذي يمكن اعتباره «الموجة الإيطالية الكبيرة الثالثة» في هذا المجال، بعد عصر الباروك الإيطالي وما قبله (أي لغاية النصف الأول من القرن الثامن عشر) والعصر الذهبي للأوبرا الإيطالية (القرن التاسع عشر)، إذ عرفت إيطاليا عدداً من التجارب الموسيقية الطليعية منذ الربع الثاني من القرن العشرين (لويجي دالابيكولا، جياتشينتو شيلسي، برونو مادِرنا، لويجي نونو، لوتشيانو بيريو،…). الصعوبة المادية في الاستمرار بهذا الاتجاه الذي عاد إليه لاحقاً (أعمال أوركسترالية وموسيقى حجرة وأعمال إنشادية)، دفعته إلى اللون الغنائي والموسيقي الكلاسيكي الشعبي… وفُتِح أمامه باب السينما على مصراعَيه. هكذا، بدأ بالتعاون مع كبار المخرجين، من العمالقة الإيطاليين مروراً بالأوروبيين وصولاً إلى نجوم هوليوود. فكتب الموسيقى التي رافقت أفلام بازوليني وبيرتولوتشي وأرجنتو وغيرهم، لكن بالأخص رفيق الطفولة سيرجيو ليوني الذي أعطاه عصارة دماغه الموسيقي في أفلام الويسترن غير المبتذلة، حيث الفكر السياسي والاجتماعي يسبق العنف والإثارة. وبعد رحيل ليوني بربع قرن، وقّع موريكوني عام 2015 موسيقى «البغيضون الثمانية» (The Hateful Eight) لكوينتن تارانتينو، الذي يحمل سينمائياً غمزةً للمعلّم الراحل، ويعدّ موسيقياً آخر التحف الكبيرة التي أنجزها رفيقه الذي غادرنا أمس… تكفي تلك المقدّمة التي ترفع الشريط إلى سابع السموات.
كتب موريكوني موسيقى أكثر من 500 فيلم… تعدادها فقط يكفي لملء جريدة. فأين يبدأ الكلام عن هذا المؤلف الأنيق والغزير وأين ينتهي؟ ربما من الأنسب، إلقاء تحية وداعية أخيرة عبر كلام عام يرسم ملامح المشروع الموسيقي الضخم الذي أنجزه الرجل. إنه معلّم السهل الممتنع. حرفيّ الجملة البسيطة والمكثّفة، المحمّلة بإحساس وعاطفة كبيرَين. الصائغ الذي ينحت نوطات قليلة، ويرميها على الصورة والمشهد والقصة، ليثبّتها بإحكام في العين والعقل، حتى لو كان النمط المطلوب بعيداً آلاف الأميال عن مشربه الأصلي. فهو يلتقط بسرعة خصائص موسيقى ما، ليصقل من روحها تحفة تندرج في النمط المعالَج، لكنها تبقى «موريكونية» التوقيع، إذ يضيف إلى روحها روحه الحنونة، العاطفية والشاعرية… أو بكلمة واحدة: الإيطالية.